المقامات العليا للنبي

المقامات العليا المخصوصة للنبي صلى الله عليه وسلم

من المتفق عليه عند جميع العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أعطي من النعم والمنح والعطايا ما لم يعط أحد من البشر في الأولين والآخرين، وهده النعم ليس حد حيث تشمل الدنيا والآخرة كيف لا وهو الذي قال الله تعالى له: {ولسوف يعطيك ربك فترضى} سورة الضحى الآية: 5. وقال له: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} الأنبياء الآية: 106. وقال له: {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا، ولكن أكثر الناس لا يعلمون} سبأ الآية: 28. فما أعطاه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم لا يمكن حصره ولا الإحاطة به لأنه فوق التصور وفوق مبلغ علم البشر ولهذا فالحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقاماته المخصوصة به وعما تفضل الله له به لأمته حديث ذو شجون وحديث لا زال يتناول من طرف العلماء منذ ما يزيد عن أربعة عشر قرنا من بعثته صلى الله عليه وسلم.

والمقصود بهذا المقال هو الإشارة إلى بعض المقامات العليا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الدار الآخرة، وتمايزه وتفرده - بما حباه الله تعالى به- عن سائر البشر، وهذا ما يظهر مكانته ومقامه العظيم عند الله جل وعلا. وهنا سوف أتناول خمس مقامات عليا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهي:

المقام الأول: المقام المحمود أو الشفاعة العظمى: قال الله تعالى: {ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} الاسراء الآية:79. قال الإمام القرطبي -رحمه الله- في جامع أحكام القرآن: اختلف العلماء في المقام المحمود على أربعة أقوال:

  1. المقام الأول: وهو أصحها: الشفاعة للناس يوم القيامة، قاله حذيفة بن اليمان، وعن ابن عمر قال: إن الناس يصيرون يوم القيامة جثًا، كل أمة تتبع نبيها، يقول: يا فلان اشفع، حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود) رواه البخاري. وعن أنس قال: حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم إلى بعض، فيأتون آدم فيقولون له: اشفع لذريتك، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بإبراهيم عليه السلام، فإنه خليل الله، فيأتون إبراهيم، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بموسى، فإنه كليم الله. فيُؤتَى موسى، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بعيسى عليه السلام فإنه روح الله وكلمته، فيؤتى عيسى، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بمحمد صلى الله عليه وسلم فَأُوتَى، فأقول: أنا لها) رواه مسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} سئل عنها فقال: (هي الشفاعة) رواه الترمذي.
  2. المقام الثاني: السيادة على جميع البشر: سيد ولد آدم: لقوله صلى الله عليه وسلم: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة)) رواه مسلم. وفي رواية الترمذي: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر).

قال العلماء: وخصه بالذكر لظهور ذلك يومئذ حيث يكون الأنبياء كلهم تحت لوائه، ويبعثه الله المقام المحمود. والسيد: فَيعِل، وأصله سيود، من ساد يسود، وهو الرئيس الذي يُتبَع وينتهي إلى قوله. قال الإمام القاضي عياض: قوله أنا سيد ولد آدم يوم القيامة) هو سيدهم في الدنيا ويوم القيامة، ولكن أشار لانفراده فيه بالسؤدد والشفاعة دون غيره، إذ لجأ الناس إليه في ذلك فلم يجدوا سواه. والسيد: هو الذي يلجأ الناس إليه في حوائجهم، فكان حينئذ سيدا منفردا من بين البشر، لم يزاحمه أحد في ذلك ولا ادعاه، كما قال تعالى: {لمن الملك اليوم لله الواحد القهار} غافر الآية: 16. والملك له تعالى في الدنيا والآخرة، لكن في الآخرة انقطعت دعوى المدّعين لذلك في الدنيا، وكذلك لجأ إلى محمد صلى الله عليه وسلم جميع الناس في الشفاعة، فكان سيدهم في الأخرى دون دعوى" الشفاء 1/401.

(وقال الإمام المناوي: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة) خصه لأنه يوم مجموع له الناس، فيظهر سؤدده لكل أحد عيانا، وَصَفَ نفسه بالسؤدد المطلق المفيد للعموم في المقام الخطابي على ما تقرر في علم المعاني، فيفيد تفوقه على جميع ولد آدم حتى اولو العزم من الرسل، واحتياجهم إليه، كيف لا وهو واسطة كل فيض. فيض القدير 3/41. وفي عارضة الأحوذي للإمام ابن العربي قال الهروي السيد: هو الذي يفوق قومه في الخير. وقال غيره: هو الذي يفزع إليه في النوائب والشدائد فيقوم بأمرهم ويتحمل عنهم مكارههم ويدفعها عنهم. عارضة الأحوذي بشرح جامع الترمذي 6/231.

وقال الشيخ عبد الرحمن المباركفوري: (أنا سيد ولد آدم) قاله إخبارا عما أكرمه الله تعالى به من الفضل والسؤدد، وتحدثا بنعمة الله عنده وإعلاما منه لأمته ليكون إيمانهم به على حسبه وموجبه، ولهذا أتبعه بقوله: (ولا فخر) أي أن هذه الفضيلة التي نلتها كرامة من الله لم أنلها من قبل نفسي، ولا بلغتها بقوتي فليس لي أن أفتخر بها، قاله الجزري. وقال النووي: فيه وجهان: أحدهما قاله امتثالا لأمر الله تعالى (وأما بنعمة ربك فحدث). وثانيهما: أنه من البيان الذي يجب عليه تبليغه إلى أمته ليعرفوه ويعتقدوه ويعملوا بمقتضاه في توقيره صلى الله عليه وسلم كما أمرهم الله تعالى به" تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي 8/585.

  1. المقام الثالث: لواء الحمد: وذلك لما ورد في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((وبيدي لواء الحمد ولا فخر)) رواه الترمذي. واللواء بالكسر وبالمد الراية. ولا يملكها إلا صاحب الجيش. قال ابن الأثير في النهاية: يريد به انفراده بالحمد يوم القيامة، وشهرته به على رؤوس الخلق " النهاية. وهل اللواء يكون حقيقي أو معنوي؟ فيه خلاف بين العلماء. قال الإمام الطيبي: لواء الحمد عبارة عن الشهرة وانفراده بالحمد على رؤوس الخلائق ويحتمل أن يكون لحمده لواء يوم القيامة حقيقي يسمى لواء الحمد. وقال التوربشتي: لا مقام من مقامات عباد الله الصالحين أرفع وأعلى من مقام الحمد، ودونه تنتهي سائر المقامات، ولما كان نبينا سيد المرسلين، أحمد الخلائق في الدنيا والآخرة أعطي لواء الحمد ليأوي إلى لواءه الأولون والآخرون، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: (آدم فمن دونه تحت لوائي) قال الشيخ عبد الرحيم المباركفوري في تحفة الأحوذي: حمل لواء الحمد على معناه الحقيقي هو الظاهر بل هو المتعين لأنه لا يصار إلى المجاز مع إمكان الحقيقة (وما من نبيء يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي) تحفة الأحوذي 8/ 585.

ولكن الإمام السيوطي رحمه الله يرى بأن اللواء معنوي وليس بحقيقي فقال: سُئِلت عن لواء الحمد هل هو لواء حقيقي أو معنوي؟ فأجبت بأنه معنوي، وهو الحمد لأن حقيقة اللواء الرَّاية، ولا يمسكها إلا صاحب الجيش، فالمراد من الحديث أنه سيد الناس وإمامهم يوم القيامة، وأنه يشهر بالحمد إذ ذاك " الرياض الأنيقة ص: 139. ومهما يكن اللواء حقيقي أو معنوي فالأمر هنا إظهار فضل النبي صلى الله عليه وسلم على سائر الخلق كلهم، وإكرام النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الفضيلة هو إكرام للأمة المسلمة وهي أمته صلى الله عليه وسلم على سائر الأمم كما تدل نصوص القرآن والسنة.

والسر في كونه صلى الله عليه وسلم حامل الحمد يوم القيامة أن الله تعالى جمع فيه خصالا كثيرة ومزايا عديدة لا توجد في غيره، فهو أجل من حَمِدَ، وأفضل من حُمِدَ، وأكثر الناس حمدا، فهو أحمد المحمودين، وأحمد الحامدين ومعه لواء الحمد يوم القيامة، ليتم له كمال الحمد، ويشتهر بصفة الحمد، ويبعثه الله مقاما محمودا كما وعده، يحمده فيه الأولون والآخرون بشفاعته لهم، ويفتح عليه فيه من المحامد. ومن هنا ندرك السر الإلهي الكبير في تسمية النبي صلى الله عليه وسلم بأحمد ومحمد. فهما اسمان دالان على كثرة الحمد. فأحمد يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر الناس حمدا لله، ومحمد يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم محمود من طرف الناس لكثرة خصال الخير فيه في الدنيا والآخرة.

  1. المقام الرابع: اختصاصه بالحوض (الكوثر): وهذا مقام شرف للنبي صلى الله عليه وسلم حيث أعطي الحوض تكريما له ولأمته زيادة في الشرف وإظهارا لكرامة الله له يوم القيامة حين يشتد الكرب وتبلغ القلوب الحناجر ويحتاج الناس إلى الماء ليرتووا منه حين يصيبهم الظمأ ولا يجدون ماء يرتوون به. قال الإمام القرطبي رحمه الله: الصحيح أن للنبي صلى الله عليه وسلم حوضين: أحدهما في الموقف قبل الصراط، والثاني: في الجنة وكلاهما يسمى كوثرا، والكوثر في كلام العرب: الخير الكثير.

فعن أنس رضي الله عنه قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة، ثم رفع رأسه متبِّسما، فقلنا: ما أضحكك يا رسول؟ قال: ((أنزل علي آنفا سورة) فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم: {إنا أعطيناك الكوثر...} ثم قال: أتدرون ما الكوثر؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: فإنه نهر وعدنيه ربي، عليه خير كثير، هو حوض ترد عليه امتي يوم القيامة، آنيته عدد النجوم، فيختلج العبد منهم فأقول: رب إنه من أمتي، فيقال: ما تدري ما أحدث بعدك)) رواه مسلم. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: ((حوضي مسيرة شهر، وزواياه سواء، وماؤه أبيض من الوَرِق (الفضة)، وريحه اطيب من المسك، كيزانه كنجوم السماء، من شرب منه لم يظمأ بعده أبدا)). رواه البخاري. فالحوض من مقامات النبي صلى الله عليه وسلم التي أكرمه الله بها وأكرم بها أمته أيضا.

  1. المقام الخامس: الوسيلة والدرجة الرفيعة: والوسيلة في الأصل: المنزلة عند الملك. والوسيلة الدرجة والقربة " لسان العرب. هذا من حيث اللغة. أما من حيث الشرع، فقد عرَّف النبي صلى الله عليه الوسيلة في أحاديثه الشريفة بأنها منزلة في أعلى الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله: فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه عشرا، ثم سَلُوا لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجوا أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة)) رواه مسلم.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا صليتم علي فسَلُوا لي الوسيلة. قيل: وما الوسيلة يا رسول الله؟ قال: أعلى درجة في الجنة لا ينالها إلا رجل واحد، وأرجو أن أكون أنا هو)) رواه أحمد. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الوسيلة درجة عند الله ليس فوقها درجة فسلوا الله أن يؤتيني الوسيلة على خلقه)) رواه ابن مردويه. فالوسيلة هي منزلة عالية في الجنة. قال ابن كثير رحمه الله: الوسيلة أقرب منازل الجنة إلى العرش وأعلاها وأشرفها ".

وفي الأخير أسأل الله لي ولكم أن يجعلنا الله تعالى جميعا من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم وأن يجمعنا به في جنات النعيم أمين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

المراجع:

  1. القرآن الكريم
  2. تفسير القرطبي
  3. صفوة التفاسير للصابوني
  4. صحيح البخاري
  5. صحيح مسلم
  6. سنن الترمذي
  7. الشفاء للقاضي عياض
  8. الوفاء بأحوال المصطفى لابن الجوزي
  9. الرياض الأنيقة للشسيوطي
  10. عارضة الأحوذي شرح سنن الترمذي
  11. تحفة الأحوذي لعبد الرحمن المباركفوري


Catégorie : مقالات - دروس في الفقه
Page lue 319 fois