الدلالات الخمس لكلمة الذرة

الدلالات الخمس لكلمة الذرة في القرآن الكريم

من المعلوم أن القرآن الكريم نزل على النبي صلى الله عليه وسلم باللغة العربية كما قال تعالى:{إنا إنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون}يوسف.وقال أيضا:{بلسان عربي مبين}الشعراء. كتاب ضبطت آياته، وفصلت تفصيلا دقيقا، تحدى الله تعالى به الجن والإنس أن يأتوا بمثله.فقال تعالى:{الر كتاب احكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير}هود. وقال أيضا:{قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا}الإسراء. وذلك لما تضمنه من عجائب وأسرار لا نهاية لها ولا حدود.

ومن ذلك مثلا تركيبه اللغوي والبلاغي الذي أعجز أرباب اللغة وأساطين الفصاحة والبلاغة، سواء ما تعلق منه بالكلمة، أو بالجملة الواحدة، أوالآية، أو السورة، أو أكثر من ذلك، حيث نجد أنه اختار بكل دقة الكلمات للتعبير بها في المحل الذي يناسبها تقديما وتأخيرا، والدلالة بها عن المعنى المراد بأوجز عبارة، وأحسن أسلوب، وأحيانا يعبر بكلمة واحدة تحمل في طياتها مغزى كبيرا، تستدعي التأمل والتدبر، كيف لا، وقد قال الله جل في علاه {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد}سورة:ق.

ومن هذه الكلمات كلمة (الذرة) التي تكرر ذكرها في القرآن الكريم في عدة مواضع منه والذرة هي أبسط الأشياء وجودا في هذا الكون الفسيح، عبر الله تعالى بها عن معاني مختلفة إحالة على أجلها جرما، والتدليل بها على عظمة،وقوة،وغنى، وعدل الواحد القهار سبحانه وتعالى. وقد عرفها العلماء بتعاريف فيها بعض التباين فيما يخص جرمها، ولكن المتفق عليه بينهم، أنها أصغر مخلوقات الله في الكون أو قريبا من ذلك، بحسب إدراكنا البشري:

1-) تعريفها : قال الإمام الرازي في مفاتيح الغيب : الذرة : النملة الحمراء الصغيرة في قول أهل اللغة ، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه أدخل يده في التراب ثم رفعها ثم نفخ فيها ، ثم قال : كل واحد من هذه الأشياء ذرة «.وقال الشيخ أبو زهرة:والذرة الغبار الذي لا يرى في أغلب الأحوال" وقال الشيخ الطاهر بن عاشور رحمه الله:والذرة تطلق على بيضة النمل، وعلى ما يتطاير من التراب عند النفخ، وهذا أحقر ما يقدُر به، فعلم انتقاء ما هو أكثر منه بالأولى ". وقال مرة أخرى في سورة تفسير سورة يونس:والذرة النملة الصغيرة ويطلق على الهباءة التي ترى في ضوء الشمس كغبار دقيق جدا، والظاهر أن المراد في الآية الأول، وذكرت الذرة مبالغة في الصغر والدقة للكناية بذلك عن إحاطة العلم بكل شيء، فإن ما هو أعظم من الذرة يكون أولى بالحكم".التحرير والتنوير. 11/214.

فهذا تعريف الذرة عند العلماء، وهي كما سبق تطلق عندهم في المفهوم اللغوي على معنيين:الأول:صغار النمل، وقد يكون المقصود بيضة النمل وهي الشيء المتناهي في الصغر. والثاني على الغبار المتطاير في الهواء والذي يرى من خلال أشعة الشمس الداخلة إلى البيت، وهذا أمر صغير جدا، وهذا ما يعبر عنه بعض العلماء بأنها:الهباءة المتطايرة في الهواء، ولا أريد هنا أن أخوض في تعريفها العلمي فهذا أمر آخر له رجاله.

2-) : عدد تكرارها في القرآن الكريم : وأما المرات التي ورد فيها ذكر كلمة (ذرة)فقد وردت ست مرات في القرآن الكريم في أربع سور منه ، وهي :

أولها:في سورة النساء في موضع واحد، هو قوله تعالى:{إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما}النساء الآية: 40.

وثانيها: في سورة يونس في موضع واحد، وهو قوله تعالى:{وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين}يونس الآية: 61.

وثالثها:في سورة سبأ وهو في موضعين الأول:هو قوله تعالى:{لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الارض}. سبأ الآية. والثاني:وهو قوله تعالى:{قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الارض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير}سبأ الآية: 22.

ورابعها:في سورة الزلزلة في موضعين: الأول:وهو قوله تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره}الزلزلة الآية: 7. والثاني:وهو قوله تعالى:{ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره}الزلزلة الآية: 8. فالحاصل أن كلمة (ذرة) تكررت ست مرات في القرآن الكريم،3-) دلالاتها في القرآن الكريم:وإذا تأملنا قليلا في الآيات التي ورد فيها ذكر الذرة، نجد أنها قد دلت على الأمور الخمسة التالية:

الدلالة الأولى: العلم المطلق:{وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين}يونس الآية: 61. وقولهأيضا:{لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الارض}. سبأ الآية . فالأمر الذي دلت عليه كلمة ( ذرة) في الآيتين هو مسألة العلم : أي علم الله تعالى المحيط بكل الأشياء سواء ما تعلق بعالم الغيب أو عالم الشهادة، والذي يشمل كل الأشياء الموجودة والمعدومة ، سواء كانت صغيرة أو كبيرة ، وسواء كانت ظاهرة أو خفية، فعلمه سبحانه وتعالى علم مطلق لا حدود له ولا قيود. قال الشيخ أبو زهرة رحمه الله : وقوله : (يعزب) أي يغيب فالمعنى أنه لا يغيب ولا يبعد فهو حاضر دائما مهيأ عند الحساب ( مثقال ذرة ) أي وزن ذرة وهي أصغر جزء لفتات الأشياء ، وقد أثبت العلم أن بالذرة نواة ذات ثقل والله تعالى أعلم بما فيها ، وقال العلماء : إن في قوتها مجتمعة ومنفردة دليل لقدرة المنشئ لكل شيء في الوجود الفاعل المريد المختار.

قال الشيخ الطاهر بن عاشور رحمه الله:والمراد بالأرض والسماء هنا العالم السفلي والعلوي، والمقصود تعميم الجهات والأبعاد بأخصر عبارة، وتقديم الأرض هنا لأن ما فيها أعلق بالغرض الذي فيه الكلام وهو أعمال الناس، فإنهم من أهل الأرض بخلاف ما في سورة سبأ {لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الارض} فإنه لما كان المقام ذكر علمالغيب، والغيب ما غاب عن الناس، ومعظمه في السماء لاءم ذلك أن قدمت السماء على الأرض.التحرير والتنوير /11/214.

الدلالة الثانية:العدل والفضل:وهو قوله تعالى:{إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما}النساء الآية: 40. (إن الله لا يظلم مثقال ذرة) أي لا يبخس أحدا من عمله شيئا ولو كان وزن ذرة وهي الهباءة وذلك على سبيل التمثيل تنبيها بالقليل على الكثير. (وإن تك حسنة يضاعفها) أي وإن كانت تلك الذرة حسنة يُنَميها ويجعلها أضعافا كثيرة. (ويؤت من لدنه أجرا عظيما)أي ويعط من عنده تفضلا وزيادة على ثواب العمل أجرا عظيما وهو الجنة " (صفوة التفسير). والآية نفت عن لله تعالى الظلم بجميع صوره، ولو كان مثقال ذرة أو أقل من ذلك، وأثبتت له العدل والفضل العظيم على عباده.

قال الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله:ومعنى النص في مرماه أن الله سبحانه وتعالى، لا ينقص أحدا من ثواب أي مقدار ولو ضَؤُلَ، فهذا الكلام فيه استعارة مؤداها أنه لا ينقص عمل عامل... وإن النص عام يشمل المؤمن وغير المؤمن في ظاهره، ولذا تكلم العلماء في أعمال الخير التي تقع من الكافر. فقال الأكثرون:إن الله لا يغفر الشرك، ويعطي الكافر ثواب الخير في الدنيا، أما المؤمن فيؤتيه ثواب الخير في الدنيا والآخرة، واستندوا في ذلك إلى ما رواه مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

(إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة، يعطى بها في الدنيا، ويجزي بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل بها في الدنيا لله، حتى إذا أفضى بها إلى الآخرة، لم تكن له حسنة يُجزى بها)رواه مسلم في صفة القيامة.

الدلالة الثالثة:الملك والغنى:وهو قوله تعالى:{قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السنوات ولا في الارض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير}سبأ الآية: 22. قال ابن كثير رحمه الله:بيَّن تبارك وتعالى أنه الإله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لا نظير له، ولا شريك، بل هو المستقل بالأمر وحده من دونه " مختصر تفسير ابن كثير 3/128. والآية وردت خطابا للمشركين الذين يزعمون أن لهم آلهة من دون الله، والمعنى: أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين أُدْعوا شركاءكم الذين عبدتموهم من الأصنام، وزعمتم أنهم آلهة من دون الله، أدعوهم ليجلبوا لكم الخير، ويدفعوا عنكم الضر. قال أبو حيان:والأمر بدعاء الآلهة للتعجيز وإقامة الحجة عليهم. (صفوة التفاسير) والآية ردت عليهم من جهات ثلاث:

1) - نفي الملك : (لا يملكون مثقال ذرة)أي لا يملكون وزن ذرة من خير أو نفع أو ضر. قال ابن عاشور: وقد نفى عنهم مِلك أحقر الأشياء وهو ما يساوي ذرة من السماء والأرض... يعني قد نفى أن يكون لآلهتهم ملك مستقل " التحرير والتنوير 22/ص :186.

2) - نفي الشرك : قال (وما لهم فيهما من شِرك)أي وليس لتلك الآلهة شركة مع الله لا خلقا ولا ملك ولا تصرفا " صفوة التفاسير 2/552.

3) - نفي الظهير والمعين : قال : (وما له منهم من ظهير) أي وليس له تعالى من الآلهة معين يعينه في تدبير أمرهما، بل هو وحده الخالق لكل شيء المنفرد بالإيجاد والإعدام.

الدلالة الرابعة:الحث على فعل الخير ولو كان قليلا جدا:وهو قوله تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره}الزلزلة الآية: 7. فهذه الآية الجامعة هي قاعدة عامة في فعل الخير ولو كان بسيطا جدا، فإن الله لا يضيع أجرا لعامل خير ولو كان يزن مثقال ذرة. عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال:هذه أحكم آية في القرآن " (تفسير القرطبي). وأخرج الشيخان في صحيحهما عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم،قال:(الخيللثلاثة:لرجل أجر ولرجل ستر، ولرجل وزر)فسُئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحُمُر؟ فقال:(ما أنزل الله فيها شيئا إلا هذه الآية الفاذة (الفريدة) الجامعة:(فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره* ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره)

وروى الإمام أحمد عن صعصعة بن معاوية عم الفرزدق أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه:{فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره. ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره}. قال: حسبي ألا أسمع غيرها)أخرجه أحمد والنسائي. فهذا الصحابي قد فهم من الآية فهما دقيقا وجامعا، حيث جعل الآية نبراسه في فعل الخير ولو كان قليلا، واجتناب الشر ولو كان حقيرا. وروى أيضا معمر بن زيد بن أسلم:أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:علمني مما علمك الله. فدفعه إلى رجل يُعَلِّمُهُ؛ فَعلَّمَهُ ((إذازلزلت)) - حتى إذا بلغ – فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره)قال:حسبي حسبي.فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال:(دعوه فإنه قد فَقُهَ)) أي صار الفقه له سجية (حالة راسخة في الإنسان)لأن الفعل على وزن فَعُلَ يدل على السجايا.

قال مقاتل:نزلت هذه الآية في رجلين، وذلك أنه لما نزل:{ويطعمون الطعام على حبه}كان أحدهما يأتيه السائل، فيسأل أن يعطيه التمرة والكسرة والجوزة،ويقول:ما هذا بشيء، وإنما نؤجر على ما نعطي. وكان أحدهما يتهاون بالذنب اليسير، ويقول: لا شيء علي من هذا، فرغب الله تعالى في القليل من الخير؛ لأنه يوشك أن يكثر، وحذر من الشر اليسير؛ فإنه يوشك أن يعظم، فلهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري ومسلم عن عدي بن حاتم: (اتقوا النار ولو بشق تمرة ولو بكلمة طيبة)وله أيضا:(لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، ولو أن تلقى أخاك ووجهك منبسط)أخرجه البخاري .

وفي الصحيح أيضا:(يا معشر النساء لا تحقرن جارة لجارتها شيئا ولو فِرْسَن شاة)يعني ظِلْفَها.وعن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(يا عائشة استتري من النار ولو بشق تمرة فإنها تسد من الجائع مسد الشبعان)أخرجه أحمد. وروي أن عائشة رضي الله عنها تصدقت بعِنَبَة وقالت:(كم فيها من مثقال ذرة). وروي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه:(أنه تصدق بتمرتين، فقبض السائل يده، فقال للسائل:ويقبل الله منا مثاقيل الذَّر، وفي التمرتين مثاقيل ذر كثيرة) تفسير القرطبي.

ففي الآية والأحاديث السابقة دليل قوي على أن الله تعالى يأمر بفعل الخير، ولو كان قليلا مثل الذرة، وأنه لا يضيع أجر عامله ولو كان بسيطا جدا. قال الإمام القرطبي رحمه الله: وهذا مثل ضربه الله تعالى في أنه لا يُغفِل من عمل ابن آدم صغيرة ولا كبيرة، وهو مثل قوله تعالى: (إن الله لا يظلم مثقال ذرة) (الجامع لأحكام القرآن). والآية أيضا تحث على فعل الخير، وتدفع الناس إلى الاستزادة منه ولو كانت قليلا، وأن كل الناس يمكن أن تكون مشاركة في فعل الخير، كل بحسب طاقته وجهده، إن صدقت النية وصلح العمل.

الدلالة الخامسة:التحذير من فعل الشر ولو كان قليلا:وهو قوله تعالى:{ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره}الزلزلة الآية: 8. وهذه الآية لها ارتباط بالآية السابقة لأن كلتيهما وردت في نفس السورة، إلا أن الأولى تحث على فعل الخير ولو كان ذرة، والثانية تحذر من فعل الشر ولو كان مثل ذلك أيضا. قال الشيخ الطاهر بن عاشور:وإنما أعيد قوله:{ومنيعمل}دون الاكتفاء بحرف العطف لتكون كل جملة مُستَقلِّةِ الدلالة على المراد لتختص كل جملة بغرضها من الترغيب أو الترهيب، فأهمية ذلك تقتضي التصريح والإطناب " 30. ص: 495. والتحذير من فعل الشر (المعاصي)ولو كان قليلا ورد أيضا التنبيه عليه في السنة؛ لأن التهاون في القليل قد يكون ذريعة إلى الكثير المهلك.

فقد وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(إياكم ومُحقَّراتِ الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنَه). قال أحدهم حاثا على فعل الخير واحتناب الشر:

إن مَنْ يَعتَدي ويكسب إثمــــا ** وزن مثقـــال ذرة سيَراهُ

ويُجازى بفعله الشر شــــرا ** وبِفِعلِ الجميلِ أيضا جَزاهُ

هكذا قوله تبــارك ربـِّـي ** في إذا زلزلـــــت وجَلَّ ثَناهُ

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته


Catégorie : مقالات - دروس في الفقه
Page lue 290 fois