المعاني الجوهرية للصلاة

المعاني الجوهرية للصلاة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

اما بعد: فإن الصلاة عماد الدين وأساسه وهي أس العلاقة بين العبد وربه وهي الركن الثاني للإسلام وأعظم القربات وأفضل العبادات على الإطلاق شرعها الله فوق سبع سماوات ليلة الإسراء والمعراج وأمر بها وبالمحافظة عليها في عديد الآيات وقد ذكرها الله تعالى بعد الإيمان في أول سورة البقرة أثناء الحديث عن المتقين وخصالهم فقال تعالى: { هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ...}

وتظهر أهميتها  أنها تتميز عن غيرها من العبادات، وذلك لأنها من أعظم العبادات البدنية وأشرفها جمع الله فيها لبني أدم أعمال الملائكة كلهم من قيام وركوع وسجود وذكر وقراءة واستغفار وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم  وأنواعا مهمة من أعمال بني آدم لأنها متوقفة على بدل ثمن ما يستر به عورته ويتطهر به من الماء  وذلك يجري مجرى الزكاة وفيها الإمساك عن الأطيبين وهو يجري مجري مجرى الصيام وإمساك في مكان مخصوص يجري مجرى الاعتكاف وتوجه إلى الكعبة يجرى مجرى الحج ومجاهدة النفس في مدافعة الشيطان يجرى مجرى الجهاد وذكر الله تعالى ورسوله يجري مجرى الشهادتين وفيها زائد على أنها من الدين كالرأس من الجسد.

وللصلاة معاني جوهرية ينبغي المحافظة عليها ومراعاتها لتكون الصلاة مؤداة على الوجه الصحيح لما شرعت له ومحققة للأهداف والغايات التي قُصِدت منها. ومن خلال المطالعة والتأمل تبين لي بعض معانيها وهي

المعنى الأول: التوحيد وإخلاص العبادة لله: من أبرز المعاني الأساسية والسرية للصلاة هو اقامة التوحيد وإخلاص العبادة لله تعالى من خلال قال تعالى: {وما أمروا ألا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة} البينة. وقال أيضا: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا} النشاء. وقال أيضا: {وقضى ربك ألا تعبدوا ألا إياه...} الإسراء. فإقامة التوحيد والتقرب إلى الله تعالى بكل إخلاص هو أحد المعاني التي تقوم عليها الصلاة فإذا كان التصديق لله بالوحدانية مصدره القلب، وإعلان الشهادتين قولا باللسان، فإن الصلاة ترجمة وافية لهذا التوحيد الخالص لله تعالى، ولذلك كانت عماد الدين (وعموده الصلاة).

المعنى الثاني: الوقت: مما ينبغي مراعاته وملاحظته والاهتمام به كثيرا بالنسبة للصلاة أنها مرتبطة بأوقات محددة وبأزمنة معينة في اليوم والليلة وهذا التحديد للوقت والزمان لأدائها يعني أن هذا الوقت له معنى وله حكمة إلهية من ورائه. فالله سبحانه هو الذي حدد للصلاة أوقاتها ووزعها على اليوم والليلة فقال عز وجل: {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا} وقال أيضا: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا}. وبطبيعة الحال أوقات الصلاة جاءت مجملة في القرآن وجاءت السنة وفصلتها وبينتها بدقة ووضوح قولا وفعلا، كما بينت السنة أن أداء الصلاة في وقتها يعد من أحب الأعمال إلى الله تعالى. ومما يدل على أهمية الوقت بالنسبة للصلاة، ما ورد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي العمل أحب إلى الله تعالى؟ قال :( (الصلاة لوقتها ...))  وذلك لأن أداء الصلاة في وقتها هو التزام للأمر الإلهي الذي أمرنا بأدائها في وقتها ثم هو دليل قوي على المحافظة عليها والحرص على أدائها بكل همة ونشاط . قال ابن بطال : في شارح البخاري : وفيه البدار(المبادرة)   إلى الصلاة في أول أوقاتها أفضل من التراخي فيها ؛ لأنه إنما شرط فيها أن تكون أحب الأعمال إلى الله إذا أقيمت لوقتها المستحب الفاضل ...وقد قيل: في قوله تعالى : ( أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا ) والله ما ضيعوها بأن تركوها ولو تركوها لكانوا كفارا ولكنهم أخروها عن أوقاتها " شرح ابن بطال للبخاري. ولعل هذا المعنى هو الفارق الكبير بين صلاة المؤمن وصلاة المنافق فإن المؤمن يؤديها وهو متلهف للقاء ربه والمنافق يؤديها رياء وتكاسلا وهذا ما أكدته الآية الكريمة في سورة النساء حيث يقول الله تعالى: {إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا الى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا...}. إذن فمن المعاني الأساسية للصلاة هو أداؤها في وقتها لحكمة إلهية عظيمة والتفريط في وقتها والتكاسل عنها لغير عذر حذر الله تعالى منه فقال: {فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون}. ومن فوت أداءها في وقتها فوت الحصول على المعاني والحكم من أدائها في وقتها؛ لأن الله تعالى ما شرع الصلوات في هذه الأوقات إلا لمعاني عظيمة وحكم جليلة. قال الإمام ولي الله الدهلوي في كتابه (حجة الله البالغة): وبالجملة: ففي تعيين الأوقات سر عميق من وجوه كثيرة " ج/1. فالمحافظة على أداء الصلاة في وقتها هو أداء لتلك المعاني السرية للصلاة التي قد لا يدركها الكثير من الناس.

المعنى الثالث : الخشوع : فهو من المعاني التي ينبغي مراعاتها والاهتمام بها في الصلاة هو الخشوع وقد ذكره الله تعالى في عدة آيات من القرآن الكريم وجعله من الأمور الأساسية والسرية للصلاة فهو لبها وجوهرها والمعنى المقصود بها وبأدائها بل إن الله تعالى جعل الخشوع في الصلاة أحد الأسباب الموصلة للفلاح والفوز بجنات الفردوس فقال : { قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون } فقد بدأ الله تعالى بِعَدِّ الخصال الموصلة إلى الفلاح وجعل الخشوع هو الخصلة الثانية بعد الإيمان وهذا التقديم والاهتمام بالخشوع يدل على أنه من صفات المؤمنين المحافظة على الصلاة من جهة ومن جهة أخرى فإن الصلاة الحقيقية هي التي يكون فيها خشوع القلب وحضوره واتصاله بالله تعالى فإذا أدى المصلي الصلاة بخشوع وطمأنينة فإن هذا القلب الخاشع يلامس المعاني الجوهرية للصلاة، وعلى العكس من ذلك فإن غياب الخشوع يجعل الصلاة جسدا بلا روح وبلا قيمة ، وهذا المعنى أكده القرآن وبينه بوضوح  قال تعالى : { واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة ألا على الخاشعين ...} سورة البقرة الآية :45. قال ابن كثير : والضمير في قوله : {  وإنها لكبيرة }  عائد على الصلاة ويحتمل أن يكون عائدا على ما يدل عليه الكلام ، وهو الوصية بذلك كقوله في قصة قارون : { ولا يلقاها ألا الصابرون } .  فالخشوع جوهر روح الصلاة ولبها وبانعدامه فيها تصبح الصلاة قليلة الفائدة عديمة الجدوى فاقدة للتأثير وغير محركة للقلوب ولا مروحة للنفوس.

المعنى الرابع: الذكر: ومن المعاني أيضا الأساسية للصلاة هو الذكر أي ذكر الله تعالى والصلة به. وهذا المعنى جدير بالاهتمام وذلك لأن الله تعالى جعل الصلاة وسيلة من الوسائل التي يتصل بها العبد بربه في كل يوم وليلة لأنها الزاد الروحي الذي يشحن القلوب والنفوس كل يوم. وقد ذكر الله تعالى في كتابه المبين عدة آيات تبين أن الصلاة شرعت لذكر الله تعالى منها قوله تعالى: {وأقم الصلاة لذكري} سورة طه. ومنها أيضا قوله سبحانه: {وأقم الصلاة أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون} سورة العنكبوت.  والمتأمل في أقوال الصلاة يجد أنها قائمة بالأساس على الأذكار: من تكبير وتحميد وتمجيد وتقديس وتسبيح وتهليل وهكذا. فأول ما يكون به النداء للصلاة هو التكبير الله أكبر وكذا الإقامة، وأول شيء في الصلاة هو التكبير ثم نجد أن الركوع والسجود يشتملان على التسبيح والتعظيم (سبحان ربي العظيم) في الركوع، و(سبحان ربي الأعلى) في السجود. وكذا الدعاء والتشهد وغيرهما. فالصلاة من بين معانيها الأساسية الذكر والتسبيح والتحميد لله تعالى. ولهذا كانت الفاتحة من السور المختارة في الصلاة والتي هي السورة الوحيدة التي تكرر وتثنى في الصلاة لما لها من خاصية على غيرها من السور فناسب أن تكون هي الصلاة بذاتها كما ورد في الحديث القدسي . قال ولي الله الدهلوي بشأن اختيار الفاتحة في الصلاة : "... فلا أحق من الفاتحة ، لأنها دعاء جامع أنزله الله على ألسنة عباده يعلمهم كيف يحمدون الله ، وكيف يثنون عليه ، ويقرون له بتوحيد العبادة والاستعانة ، وكيف يسألونه الطريقة الجامعة لأنواع الخير، ويتعوذون به من طريقة المغضوب عليهم والضالين ، وأحسن الدعاء أجمعه " .    

المعنى الخامس : الخضوع :  ومن المعاني والأمور الأساسية للصلاة هو الخضوع وهو يعني الطاعة والاعتراف لله تعالى بأنه القادر القاهر الذي تخضع له جميع المخلوقات بكاملها طوعا و كرها { ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا أو كرها } . قال الإمام ولي الله الدهلوي: اعلم أن أصل الصلاة ثلاثة أشياء : أن يخضع لله تعالى بقلبه ،ويذكر الله بلسانه ، ويعظمه غاية التعظيم بجسده ، فهذه الثلاثة أجمع الأمم على أنها من الصلاة ، وإن اختلفوا فيما سوى ذلك ، وقد رخص النبي صلى الله عليه وسلم عند الأعذار في غير هذه الثلاثة " (حجة الله البالغة ).  فإذا ذهبنا ننظر في حركات الصلاة مثلا نجدها تقوم على إبراز هذا المعنى بقوة فالركوع مثلا فيه الانحناء وهو يرمز للخضوع والطاعة والسجود أيضا يبرز بشكل قوي شدة الخضوع لله تعالى. وقد أراد الله تعالى أن يكون السجود من أساسيات الصلاة ليعلم عباده كيف يخضعون له وكيف يتغلبون على نفوسهم التي من طبعها التكبر والعناد. قال ربيعة بن كعب كنت أبيت مع رسول صلى الله عليه وسلم فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال لي: سل، فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: أو غير ذلك ؟ قلت: هو ذاك قال: (فأعني على نفسك بكثرة السجود) رواه مسلم واللفظ له وأبو داود والطبراني في الكبير. فالسجود لله تعالى بكامل البدن على الأرض وعلى الأعضاء السبع هو منتهى الخضوع لله تعالى وقمة العبودية لله جل جلاله إذا توافق هذا مع الخضوع الكامل للقلب وحضوره.

المعنى السادس: التعظيم والإجلال: ومن المعاني البارزة للصلاة هو التعظيم والإجلال لله تعالى وذلك لأن الصلاة تشتمل على كثير من الأقوال والأفعال والحركات ترمز إلى هذا المعنى بقوة وكأن الصلاة بذاتها تسعى إلى تحقيق هذا المعنى وغرس هذا الشعور في نفس المصلي في اليوم والليلة. وإذا تحقق هذا المعنى في نفسه فإنه يحقق الهدف والغاية من تشريع الصلاة والمحافظة عليها وهي بذلك تمنحه القوة الروحية والنفسية وتزوده براحة وطاقة بدنية ذاتية لا نظير لها وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يشير إلى هذا المعنى حين قال: (أرحنا بها يا بلال). ومن أبرز ما يدل على ضرورة مراعاة معنى التعظيم في الصلاة هو أنها بنيت من أولها إلى آخرها على معان كلها تدل على أن المقصود بها هو مراعاة جانب التعظيم والإجلال لله تعالى ومن ذلك مثلا: الابتداء بالتكبير (الله أكبر) وهو من أبرز الدلائل على التعظيم والإجلال لله تعالى في الصلاة حيث إن أول كلمة يقولها المصلي للدخول إلى الصلاة والارتباط بالله تعالى هو التكبير وهذا يعني أن) الله أكبر (من كل كبير وأعظم من كل عظيم. وكذلك قراءة الفاتحة هي تشتمل على التعظيم من أولها الى آخرها.

فقد أخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: (الحمد لله رب العالمين) قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: (الرحمن الرحيم) قال الله أثنى علي عبدي، فإذا قال: ( مالك يوم الدين ) قال الله تعالى : مجدني عبدي ...) . فالفاتحة اشتملت على الحمد والثناء والتمجيد لله تعالى إضافة إلى توحيد بالعبادة والاستعانة. فلهذا كانت الصلاة من أهم العبادات ومن أهم مظاهر التعظيم لله جل جلاله.

فقد اشتملت على التعظيم والإجلال لله تعالى قولا وفعلا ومن أبرز التعظيم في الصلاة: الركوع والسجود حركة بالبدن ثم مرافقة ذلك بالقول وهو قول المصلي (سبحان ربي العظيم) و(سبحان ربي الأعلى) .

وفي هذا القدر كفاية في بيان المعاني الجوهرية للصلاة، أسال الله لي ولكم الهداية والتوفيق. والله من وراء القصد والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.  

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته


Catégorie : مقالات - دروس في الفقه
Page lue 291 fois