واجباتنا نحو النعم الربانية

واجباتنا نحو النعم الربانية

الحمد لله وكفى وصلى الله وسلم على النبي المصطفى وعلى آله وصحبه ومن اجتبى أما بعد: فإنه مما ينبغي على المسلم معرفته هو أنه قد أحاطه الله تعالى بعناية كبيرة، وبلطائف دقيقة، وبنعم متعددة، صغيرة وكبيرة، ظاهرة وباطنة.

وأمام هذه النعم الكثيرة الواسعة، لا يسع المسلم الصادق إلا أن يكون حامدا وشاكرا لله جل وعلا، آناء الليل وأطراف النهار، على ما أسدى إليه ربه من النعم، وأغدق عليه من المنح والمنن، والتي يصعب عليه حصرها ووصفها، عسى أن يكون مؤديا لبعض شكر الله تعالى عليه، ويكون داخلا ضمن المعترفين بفضل الله، وإحسانه وكرمه.

ولما كانت النعم الإلهية هي الإحسان الدائم المتواصل من الله تعالى على عبده، فإنه ينبغي عليه أن يؤديها على الوجه اللائق بها، وأن يستعملها فيما منحت له، وأعطيت من أجله، تفضلا من الله وإحسانا من غير مقابل.

ومن المعلوم أن الكفر بالنعمة والجحود لها، وإسنادها لغير مانحها، هو بداية الزوال لها، وفقدانها. وقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الاستعاذة بالله من زوالها ومن تغير الحال من الأحسن إلى السيئ، ومن الرفاهية إلى الشدة.

فقد روى ابن ماجة في سننه عن عبد الله بن سرجس رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الحور بعد الكور).  قال الامام السندي في حاشيته: والكور لف العمامة وجمعها، والحور نقضها، والمعنى الاستعاذة بالله من فساد أمورنا بعد صلاحها، كفساد العمامة بعد استقامتها على الرأس. (حاشية السندي على النسائي).  وأما الإمام الترمذي، فقد فسر الحور بعد الكور بالرجوع من الإيمان إلى الكفر، أو من الطاعة إلى المعصية.  وقال المباركفوري في تفسير الحديث: أي النقصان بعد الزيادة وفساد الأمور بعد صلاحها. (تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي). والمعاني السابقة كلها صحيحة، لأنها كلها تتعلق بمعنى معين من معاني النعمة، والحديث شامل لها جميعا، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم.

فإذا كانت النعم لها أهمية كبيرة في حياتنا كلها، فماهي واجبتنا تجاهها؟ هذا ما أريد أن أسجله في النقاط التالية:

الواجب الأول: الاعتراف بأنها من الله تعالى: فمما ينبغي على المسلم أن يكون عليه تجاه النعم، ويتحلى به في سلوكه قولا وعملا، هو أن يكون لديه يقين ثابت ، بأن كل نعمة دقَّت أو عظمت ، ظهرت أو خفيت، فهي من المولى جل جلاله ، وهذا هو سلوك الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، فهذا سليمان عليه السلام يقول كما حكى عنه القرآن عندما سمع كلام النملة وهي تخاطب قومها من النمل محذرة لهم : { فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن اشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي ...} النمل الآية :19.

وإثبات النعم ونسبها كلها لله هو ما أكده القرآن الكريم في أكثر من آية، ومنها قوله تعالى: {وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجْأَرون} النحل الآية: 53. أي ما تفضل عليكم أيها الناس من رزق ونعمة وعافية ونصر فمن فضل الله وإحسانه. صفوة التفاسير للصابوني رحمه الله، ج- 2- ص: 130. قال الإمام القرطبي رحمه الله: والباء في (بكم) متعلقة بمضمر محذوف تقديره: وما يكن بكم. {مِن نِّعْمَةٍ} أي صحة وسعة رزق وولد فمن الله. وقيل: المعنى وما بكم من نعمة فمن الله هي: {إذا مسكم الضر} أي السقم والبلاء والقحط. {فإليه تجأرون} أي تضجون بالدعاء يقال: جأر يجأر جُؤَارا: أي يصيح. الجامع لأحكام القرآن، ج-10 ص: 76.

وقال الإمام الفخر الرازي رحمه الله: النعمة عبارة عن كل ما يكون منتفعا به، وأعظم الأشياء في النفع هو الإيمان، فثبت أن الإيمان نعمة. ثم يقول: وهي: إما دينية أو دنيوية. أما النعم الدينية فهي إما معرفة الحق لذاته، وإما معرفة الخير لأجل العمل به، وأما النعم الدنيوية فهي إما نفسانية، وإما بدنية، وأما خارجية ، وكل واحد من هذه الثلاثة جنس تحته أنواع خارجة عن الحصر والتحديد،  كما قال تعالى : {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها }. والذي يتأكد لنا هنا بدون ريب أن كل نعمة مهما كانت صغيرة أو كبيرة، دقيقة أو عظيمة في ذات الإنسان، أو في خارجه فهي منه سبحانه عز وجل، ولا فضل لأحد فيها، بل الفضل كله لله تعالى. وهذه الآية دالة على أنه ينبغي أن تُنسب النعم كلها لله، ظهرت أو خفيت، جاءت منه ابتداء، أو ظهرت بواسطة الإنسان أو غيره، فالفضل فيها لله سبحانه جل وعلا.

ولذلك فإن القرآن الكريم ذم ذما شديدا أولئك الذين يزعمون أن ما بأيدهم من نعمة، أو علم، أو مال، أو أولاد، هو من عند أنفسهم، أو اكتسبوه بمهارتهم وذكائهم، فالمالك، والمنعم هو الله جل جلاله. ولنضرب لذلك مثلا واحدا يكون كافيا في الدلالة على هذا النوع من البشر المنكر لنعمة الله عليه، يتمثل فيما بسط الله به على قارون من المال والعلم، حيث أنكر نعمة الله عليه، ونسبها لنفسه، جحودا واستكبارا، جهلا منه وافتراء. فقال الله تعالى بشأنه: {قال إنما أوتيته على علم عندي أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من أشد منه قوة وأكثر جمعا...} القصص الآية :78. إذن فالواجب الأول من الواجبات في مسألة النعمة هو نسبتها إلى المنعم بها، وهو الله جل جلاله، والاعتراف بأنها منه وحده سبحانه، وهذا هو الفارق بين المؤمن والكافر، فالمؤمن يعتقد جازما أنها من الله، والكافر يظن أنها من عند نفسه، ولا ينسبها لله إطلاقا.

وقد ورد في السنة ما يدل على هذا المعنى في الأدعية النبوية الشريفة: قال الإمام النووي رحمه الله: وروينا في سنن أبي داود بإسناد جيد لم يضعفه عن عبد الله بن غنَّام البياصي الصحابي رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من قال حين يصبح  اللهم ما أصبح بي من نعمة فمنك وحدك لا شريك لك ، فلك الحمد ، ولك الشكر ، فقد أدى شكر يومه ، ومن قال حين يمسي ، فقد أدى شكر ليلته ). الأذكار النووية حديث رقم: 225.  

الواجب الثاني: شكر المولى سبحانه عليها: ومن الواجبات المفروضة على الناس في النعم هو شكر الله تعالى عليها قولا وعملا، فبعد الاعتراف له بأنه هو المنعم بها، يأتي واجب آخر وهو شكر المنعم بها وحمده على ما تفضل به على العبد.  وهذا ما ورد في آيات كثيرة من القرآن الكريم في مناسبات مختلفة، وفي مواطن متنوعة. ومنها قوله جل جلاله: {لئنكن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد} ابراهيم الآية: 9.  قال الإمام عبد الوهاب السبكي رحمه الله تعالى (ت 771). مبينا أن النعم تزول بكفرانها وتبقى مع شكرها قائلا: اعلم أنها لم تزل عنك إلا لإخلالك بالقيام بما يجب عليك من حقوقها، وهو الشكر فإن كل نعمة لا تُشكر جديرة بالزوال، ومن كلامهم (أي العلماء) النعمة إذا شُكرت قرَّت، وإذا كُفِرَت فرَّت، وقيل: لا زوال للنعمة إذا شُكرت ، ولا بقاء لها إذا كُفِرت، وقيل : النِّعمة وحْشِيَّة ( حيوان) فاشْكُلوها بالشكر. والأدلة على أن كُفران النعمة يوجب انزواءها كثيرة، والحاصل أن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم دالاَّ على أن كفران النعمة يُؤذن بزوالها، وشكرها يقضي بمزيدها. وذكر العارفون: أن الرب قطع بالمزيد مع الشكر، ولم يستثن فيه، واستثنى في خمسة أشياء: في الإغناء والإجابة، والرزق، والمغفرة، والتوبة. فقال تعالى: {فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء} التوبة الآية: 28. وقال تعالى: {فيكشف ما تدعون إليه إن شاء} الأنعام الآية 41. وقال تعالى: {يرزق من يشاء} آل عمران الآية: 37. وقال: {ويغفر لمن يشاء} المائدة الآية: 40. وقال: {ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء} التوبة الآية: 27.

وقال في الشكر من غير استثناء: {لئنكن شكرتم لأزيدنكم} فإن قلت يكون الشكر؟  فأقول: الشكر يكون بالقلب واللسان والأفعال. هذه أركانه الثلاثة: أما القلب – وهو أعظمها – فالمراد منه أن تعلم وتعتقد أن الله هو الذي منه تكون النعمة لا أحد سواه شاركه. (وهذا ما مر في الواجب الأول) وأما اللسان: فالمراد منه حمده تعالى والتحدث بها. لا لرياء وسمعة وخيلاء، وإنما للثناء على الرب تبارك وتعالى. وأما الأفعال: فالمراد منها امتثال أوامر المنعم واجتناب نواهيه. وشكر النعمة هو الحالة الأولى التي يكون عليها الإنسان المؤمن كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، والحالة الثانية هو حالة نزول البلاء، فيكون بالصبر والاحتساب. قال صلى الله عليه وسلم: (عجبا لأمر المؤمن إن أمره كُلَّهُ لَهُ خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن: إن أصابته سرَّاء شكر فكان خيرا له ، وإن أصابته ضرَّاءٌ  صبر فكان خيرا له ) رواه مسلم.

 ولنعلم جميعا أن شكرنا لله هو نعمة علينا تستحق هي الأخرى شكرها لله، ويعني هذا أن الله تعالى إذا وفقك   لشكره فهذه نعمة منه أيضا تستحق الشكر، فسبحان من لا تتناهى نعمه، ولا ينقطع فضله وإحسانه. وأنقل هنا كلام الشافعي كما أورده الإمام السبكي عنه، قال: الحمد لله الذي لا يُؤدَّى شكر نعمة من نعمه إلا بنعمة منه توجب على مؤدي ماضي شكر نعمه بأدائها نعمة حادثة يجب عليه شكرها، ولا يبلغ الواصفون كنه عظمته، الذي هو كما وصف نفسه وفوف ما يصفه به خلقه. معيد النعم ومبيد النقم ص: 15. وهذا كما قال محمود الوراق مخاطبا نفسه:

إذا كان شكري نعمة الله نعمة ** عليَّ له في مثلها يجب الشكـــــر.

فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله ** وإن طالت الأيام واتصل العمر.

الواجب الثالث: التحدث بها: ثم يأتي الواجب الثالث وهو التحدث بنعمة الله تعالى قولا وفعلا، لقوله تعالى: {وأما بنعمة ربك فحدِّث} الضحى الآية:11. ومعناها كما قال ابن كثير: أي وكما كنت عائلا فقيرا فأغناك الله فحدث بنعمة الله عليك. مختصر تفسير ابن كثر، ج- 3ص: 651.  والآية هذه وردت في سياق الحديث عن ذكر فضائل الله تعالى على نبيه، وما أكرمه الله به من الفضائل والمنح، ولكن خطابها يتوجه للجميع؛ لأنه ما من إنسان أو مخلوق إلا وهو مُحاط بنعم لا نهاية لها، ولا حدود.

ولهذا أورد الإمام ابن كثير في تفسيره حديثا يدل على عموم معناها للجميع، فعن أبي نضرة قال: (كان المسلمون يرون أن من شكر النعم أن يحدث بها) رواه ابن جرير. والإمام السيوطي وهو من كبار علماء المسلمين ألف كتابا أسماه: (التحدث بالنعمة) وهو كتاب خصصه للتعريف بنفسه أي الترجمة حيث جعل التعريف بنفسه ونسبه وبلده وظروف نشأته، والأعمال العلمية التي قام بها في حياته، وما مضى من عمره من التحدث بالنعمة، ولهذا قال في مقدمة الكتاب: وبعد: فإن التحدث بنعمة الله تعالى مطلوب شرعا، قال تعالى: {وأما بنعمة ربك فحدث} ثم ساق جملة من الأحاديث الواردة في التحدث بالنعمة. منها، ما أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (التحدث بنعمة الله شكر وتركها كفر) وأخرج سعيد بن منصور في سننه عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، قال: (إن ذكر النعم شكر). وأخرج ابن أبي الدنيا، والبيهقي عن الحسن البصري، قال: (أكثروا ذكر هذه النعمة فإن ذكرها شكر). وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي عن الجريري قال: (كان يُقال إن تعداد النعم من الشكر).

ثم يذكر الإمام السيوطي رحمه الله تعالى، الباعث على التحدث عن النعمة وأنه نوع آخر من أنواع شكرها، قائلا: والتحدث بالنعمة يورث المزيد منها لأنه شكر، كما ثبت ذلك بالأدلة المذكورة، والشكر يقتضي الزيادة، لقوله تعالى: {لئن شكرتم لأزيدنكم}. وأخرج ابن مردويه في تفسيره عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أعطي الشكر لم يحرم الزيادة لأن الله تعالى يقول: {لئن شكرتم لأزيدنكم}.

ثم إن هناك  أمر آخر مهم ينبغي الإشارة إليه ، والتنبيه عليه ، وهو في غاية الأهمية ، وهو وجوب التفريق بين التحدث بالنعمة تعظيما وثناء على المنعم بها ، وبين التحدث بها فخرا ومباهاة وإعجابا. قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: { إن الشيء الواحد تكون صورته واحدة، وهو ينقسم إلى محمود ومذموم ، فيحتاج الحريص على دينه إلى معرفة الفرق بينهما، من ذلك التحدث بالنعمة شكرا والفخر بها، فالأول: القصد به إظهار فضل الله وإحسانه ومدحه والثناء عليه ، وبعث النفس على الطلب منه  دون غيره،  وعلى رجائه ، فيكون داعيا إلى الله بذلك. والثاني القصد منه الاستطالة على الناس وإظهار أنه أعز منهم وأكبر، واستعباد قلوبهم، واستمالتها بالتعظيم والخدمة " الروح لابن القيم رحمه الله.    

الواجب الرابع: وتعظيمها وتعظيم المنعم بها: وهذا أمر مهم، وهو نوع من الشكر لله تعالى، لأن تعظيم النعم هو تعظيم لمن أنعم بها، وأسداها والله جل في علاه عظَّم كثيرا من النعم، وامتن بها على عباده تنبيها لهم، ولفتا لأنظارهم على أهميتها في حياتهم.  وهذا ما ذكره في كثير من السور والآيات حتى سميت سورا بكاملها سور النعم، لكثرة ما امتن الله به على عباده من نعم عظيمة متعددة ومتنوعة.

ومن هنا سميت سورة النحل بسورة النعم، لكثرة ما ذكر الله فيها من الامتنان بنعمه على عباده.  وأيضا سورة الرحمن، وتسمى أيضا سورة النعم لكثرة ما ذكر الله فيها من النعم. ففي هذا الامتنان تنبيه على مصدرها وهو الله جل جلاله، ثم الدلالة على عظمته وقدرته، ثم الدلالة على رحمته بعباده من خلال النعم التي سخرها لهم فضلا وإحسانا، ثم بيان حاجة الإنسان، وافتقاره إليها، وإلى المنعم بها عز وجل.

يقول الإمام السبكي رحمه الله: وعندي أنه يتعين على ذي النعمة أيضا أن ينظر إليها – وإن قلت – بعين التعظيم، لكونها من قبل الله تعالى، فإن قليله لا يقال له قليل، وإلى نفسه بالتحقير بالإضافة إليها، معترفا بأنه ليس أهلا لها، وقد وصَّله إليها لا باستحقاق منه، بل بفضل منه ".

ثم يقول: فإن وقع في نفسك استقلالها (عدها قليلة) فإنه يخشى عليك زوالها وافتقارك إليها، وإن وقع في نفسك استعظامها فأبشر بدوامها والازدياد. قال الإمام أحمد رحمه الله: أعطيت بعض الناس عطاء فاستقله فعلمت أن الله يسلبه إياه ويحوجه إليه. (معيد النعم ومبيد النقم ص :15-16.). إذن فتعظيم النعم هو تعظيم للمنعم بها، وعكس ذلك هو الكفر بها وجحودها والتنكر لمن تفضل بها وهو الله جل جلاله. وإذا أردت أن تعرف قيمة أي نعمة وعظمتها وأهميتها في حياتك كلها فانظر إليها حين تفتقدها وتحتاج إليها. فلا تبرز للإنسان قيمة الصحة إلا بفقدانها، ولا يثمن المال إلا بفقدانه، ولا تعرف قيمة الحرية إلا بالسجن والحبس، ولا تقدر قيمة الحياة من حيث المشي والتنقل في مناكب وفجاجها، إلا بالحجر الصحي، والمكث في البيت، أو الإعاقة الكاملة عن الحركة لا قدر الله (حفظني الله وإياكم جميعا) من السلب بعد العطاء. فمن خلال فقدان الأشياء وانعدامها تزداد حاجتنا إليها، وتعطشنا إلى الاستزادة منها.

الواجب الخامس: استعمالها فيما خلقت له: بقي عندنا واجب آخر متعلق بكيفية التعامل مع النعم، وهو استعمالها فيما خلقت له، ومنحت من أجله، حتى يكون الإنسان بارا بها، وشاكرا لصاحبها، وحامدا له آناء الليل وأطراف النهار. يقول الإمام السبكي رحمه الله: في العنصر الثالث من عناصر شكر الله تعالى وهو شكره بالأفعال: وأما الأفعال: فالمراد امتثال أوامره، واجتناب نواهيه، وهذا يخص كل نعمة بما يليق بها، فلكل نعمة شكر يخصها. والضابط أن تستعمل نعم الله في طاعته، وتتوقى من الاستعانة بها على معصيته، فليس من شكر النعمة أن تهملها وتشكر على وجه غير الوجه الذي عليه بُنيت". وهذه بعض الأمثلة لكيفية استعمال النعم لما خلقت له:

أولا: نعمة العينين: من شكر نعمة العينين أن تستر كل عيب تراه لمسلم وتغضهما عن كل قبيح إلى غير ذلك من أحكام النظر. فإن أنت أخذت تصلي كل ليلة ركعتين على شكر نعمة العينين؛ وأنت مع ذلك تستعملهما في النظر إلى المُحرَّم، فلست بشاكر هذه النعمة حق شكرها.

ثانيا: من شكر نعمة الأذنين ألاَّ تسمع حراما، وأن تستر كل عيب تسمعه، فإن تصدقت بدرهمين شكرا لله على نعمة الأذنين، وهتكت كل قبيح سمعته، وأصغيت إلى كل حرام وعيته، فلست من الشاكرين.

ثالثا : نعمة المال : فالمال نعمة كبيرة ومنحة عظيمة على الإنسان تساعده على الحياة برفاهية وطمأنينة ، فإذا ما استعمله فيما ينفعه دينا ودنيا ، وأنفقه في وجوه الخير والبر والإحسان ، فهو شاكر الله تعالى، وإن هو بذره وأسرف فيه ، واستعمله في الحرام ، وجعله وسيلة للظلم والاستبداد ، والتفاخر به على الناس والازدراء به على الآخرين فهو يتحول إلى نقمة كبيرة ، وإلى مفسدة عظيمة في أيدي إنسان فاسد والعياذ بالله ، وأخيرا أختم هذه السطور بقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( نعم المال الصالح للرجل الصالح ) حديث صحيح : أخرجه البخاري في الأدب المفرد، والحاكم في المستدرك ، والبيهقي في شعب الإيمان.

جعلني الله وإياكم ممن يقدرون نعمه، ويشكرونه عليها قولا وعملا. والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على رسول المصطفى، ونبيه المرتضى، آمين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


Catégorie : مقالات - دروس في الفقه
Page lue 307 fois