محفزات الإنفاق في سبيل الله

محفزات الإنفاق في سبيل الله تعالى

من المسائل التي اهتم بها القرآن كثيرا، واستثار لها الهمم، وتناولها بكثرة، وغاير في أساليب الدعوة إليها، وجعلها من أهم صفات المؤمنين، هي مسألة الإنفاق في سبيل الله، فهي من الموضوعات ذات الأهمية في القرآن الكريم، لما لها من أهمية كبيرة في المجتمع المسلم؛ وذلك لأن الإنفاق له غايات كبيرة، وأهداف عظيمة، من وراء تشريعه والدعوة إليه.

ولتحقيق هذه الغايات على أرض الواقع نجد أن نصوص القرآن والسنة جاءت مستفيضة، ومسهبة في الحديث عن الإنفاق، بأسلوب الترغيب تارة، وبأسلوب الترهيب تارة أخرى، وهذا يدل على أهمية الإنفاق في سبيل الله في كل الأحوال في السراء منها أو في الضراء.

وقد سلكت نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، منهجا في غاية الترغيب والتشويق في الدعوة إلى الإنفاق، ورتبت عليه ثمارا كثيرة، ونتائج عظيمة، وذلك لما له من دور كبير في إصلاح المجتمع، وتقوية الروابط، وتمتين العلاقات، ومحاربة الفقر، وسد حاجة المعوزين، والقضاء على أنماط الانحراف التي تنتج عن الفقر وتوابعه، وإضافة إلى ذلك، فإن الإنفاق في سبيل الله هو أحد الطرق التي سلكها الإسلام لتزكية النفس، وتطهيرها من آفة الشح، والبخل والأنانية، والجشع والطمع، والاستفراد بالثروة وتكديسها في يد أفراد معدودة.

وبعد التأمل والتدبر في النصوص الواردة في هذا المجال، اتضح لي أنها اشتملت على محفزات كثيرة، أوجزها في النقاط التالية، وهي:

1-اقتران الإنفاق في سبيل الله بالإيمان : من المحفزات التي وردت في القرآن فيما يخص الإنفاق في سبيل الله، اقتران الإنفاق بجملة من الخصال الكبرى، ومن أهمها الإيمان بالغيب، وإقامة الصلاة، والإيمان بما سبق من الرسل والرسالات، والإيمان باليوم، بل نجد أن الله سبحانه جعل من يتصف بهذه الصفات العظيمة هم المفلحون في الدنيا والآخرة. منها قوله جل جلاله: {الذين يُؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، والذين يؤمنون بما أنزل إليه وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) البقرة الآية: 2-4. ومن ذلك أيضا قوله تعالى: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادته إيمانا وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون} الأنفال الآية: 2-3.

وهنا نجد أن المولى عز وجل جعل الإنفاق ضمن المكونات الأساسية لحقيقة المؤمنين، وهذا محفز قوي للمؤمن لأن يكون منفقا في سبيل الله تعالى خاصة، وأن الله تعالى ذكر بعد هذه الخصال، أنه أعد لهم المغفرة والرزق الكريم في جنات النعيم فقال: {أولئك لهم مغفرة ورزق كريم}.

وهذا الوعد لوحده كاف في استنهاض الهمم، وتقوية العزائم، وتحفيز النفوس إلى الانفاق في سبيل الله جل جلاله. وربط الإنفاق في سبيل بالإيمان هو ربط بالقلوب المؤمنة، واستنهاض هممها وإثارة للمشاعر الإيمانية الجياشة، للإقبال بتلهف شديد نحو الإنفاق؛ لأنه لا شيء يدفع الإنسان إلى الى فعل الخير مثل الإيمان بالله تعالى، والتعلق الشديد به، وهذا ما جسدته نصوص القرآن والسنة في كثير من المسائل، منها على سبيل المثال الأمر بطاعة الله، قال تعالى: {وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين} وقوله صلى الله عليه وسلم: {من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه} متفق عليه. وربط هذه الأعمال بالإيمان تحفيز واضح للمؤمن للإقبال عليها بكل حب وسرور.

2-) مضاعفة الأجر بقدر النية والإخلاص : وهذا ما جاءت به الآيات القرآنية وتردد كثيرا في القرآن الكريم من ذلك قوله تعالى : {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل كمثل حبة انبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء الله والله واسع} البقرة الآية : 261.

قال الإمام القرطبي رحمه الله: وهذه الآية لفظها بيان مثال لشرف النفقة في سبيل الله ولحسنها، وضمنها التحريض على ذلك، وفي الكلام حذف مضاف تقديره مثل نفقة الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة. وطريق آخر: مثل الذين ينفقون أموالهم كمثل زارع زرع في الأرض حبة فأنبتت الحبة سبع سنابل، يعني أخرجت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة؛ فشبه المتصدق بالزارع وشبه الصدقة بالبذر فيعطيه الله بكل صدقة له سبع مئة حسنة.

ثم قال تعالى: {والله يضاعف لمن يشاء} يعني على سبعمائة؛ فيكون مثل المتصدق مثل الزارع، إن كان حاذقا في عمله؛ ويكون البذر جيدا وتكون الأرض عامرة، يكون الزرع أكثر؛ فكذلك المتصدق إذا كان صالحا والمال طيبا ويضعه في موضعه، فيصير الثواب أكثر..." تفسير القرطبي ج/3/297.

وفي قوله تعالى: (كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة) قال الإمام ابن كثير رحمه الله: وهذا المثل أبلغ في النفوس من ذكر عدد سبعمائة، فإن في هذا إشارة إلى أن الأعمال الصالحة ينميها الله عز وجل لأصحابها، كما يُنمي الزرع لمن بذره في الأرض الطيبة. وقد وردت السنة بتضعيف الحسنة إلى سبعمائة ضعف. من ذلك حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رجلا تصدق بناقة مخطومة في سبيل الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لتأتين يوم القيامة بسبعمائة ناقة مخطومة) رواه أحمد وأخرجه مسلم بنحوه.

ومن الآيات الدالة على التضعيف أيضا قوله سبحانه: {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة ...} البقرة الآية: 245. قال ابن كثير رحمه الله: يحث تعالى عباده على الإنفاق في سبيل الله وقد كرر هذه الآية في غير موضع " وقال أيضا في قوله تعالى: {فيضاعفه له أضعافا كثيرة} قال: كما قال تعالى: {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل كمثل حبة أنبتت سبع سنابل} ...فالكثير من الله لا يحصى" مختصر تفسير ابن كثير ج/1/ ص: 222-223. وهذه الآية لما نزلت كانت المحفز الأول لأبي الدحداح لأن يتصدق بحائطه الذي فيه أكثر من ست مئة نخلة.

فعن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت: {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا...} قال أبو الدحداح الأنصاري: يا رسول الله وإن الله عز وجل ليريد منا القرض؟ قال: (نعم يا أبا الدحداح) قال: أرني يدك يا رسول الله! قال فناوله يده، قال: فإني قد أقرضت الله ربي عز وجل حائطي –قال: وحائط له فيه ستمائة نخلة وأم الدحداح فيه وعيالها – قال: فجاء أبو الدحداح فناداها: يا أم الدحداح، قالت: لبيك، قال: اخرجي فقد أقرضته ربي عز وجل) رواه ابن أبي حاتم وأخرجه ابن مردويه عن عمر مرفوعا بنحوه.

3-) ما أنفق في سبيل الله يخلفه الله تعالى : وهذا وعد من الله تعالى للمنفقين، وهذا محفز آخر قوي حيث يجعل الإنسان يُقبل على الإنفاق برغبة قوية، وإيمان قوي صادق بوعد الله بالخَلف لمن ينفق في سبيله.

قال تعالى: {قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين} قال في التسهيل: كُرِّرَت الآية لاختلاف القصد، فإن القصد بالأول الكفار، والقصد هنا ترغيب المؤمنين بالإنفاق" السهيل ج3/152. أي مهما أنفقتم من شيء فيما أمركم به، فهو يخلفه عليكم في الدنيا بالبذل، وفي الآخرة بالجزاء والثواب، كما ثبت في الحديث القدسي: (يقول الله تعالى: يا ابن آدم أنفق أُنفِق عليك). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنفق بلالا ولا تخش من ذي العرش إقلالا). تفسير ابن كثير ج/3- ص: 134.

وفي الحديث: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله عز وجل) رواه مسلم وفي الحديث أيضا: ( ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا) متفق عليه. فهذه الأحاديث أيضا تدعم معنى الآية وأن الله تعالى يخلف على من أنفق ماله في سبيله وطاعته، وأن ما عند الله لا ينفد أبدا. وهذه النصوص كلها تحفز الإنسان المسلم على الإنفاق وتحثه عليه، وتزرع في نفسه الثقة بالله وأنه يعوض للإنسان ما أنفق من مال.

4-) الإنفاق في سبيل الله يكون نفعه للمنفق وحده : ومن المحفزات الكبرى في الإنفاق أن الله تعالى جعل الإنفاق في سبيله يعود على الإنسان نفسه. فقال: {وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون) البقرة 272. كقوله: {من عمل صالحا فلنفسه} ونظائرها كثيرة. والمعنى: أي شيء تنفقونه من المال فهو لأنفسكم لا ينتفع به غيركم، لأن ثوابه لكم. وإذا علم الإنسان أن ما ينفقه هو لنفسه خاصة، ازداد حماسا واندفاعا نحو الإنفاق في سبيل الله تعالى.

5-) الإنفاق في سبيل الله علامة التقوى وخصلة من خصال أهل الجنة : ومن المحفزات أن الإنفاق في سبيل الله يوصل الإنسان إلى أعلى رتبة وهي صفة التقوى التي هي بدوره توصل إلى الجنة (سارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء ...} آل عمران133- 134. حيث ذكر الله تعالى أن من أوصاف المتقين الإنفاق في سبيل الله في السراء والضراء، وهذا المحفز لوحده كافيا في الحث على الإنفاق سبيل الله لأن ثوابه وأجره يفوق التصور والخيال، وما ظنك بجنة عرضها السماوات والأرض!

6-) لا ينال البر إلا بالإنفاق من الشيء المحبوب : قال تعالى : {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} والمعنى لن تصلوا إلى ثواب البر وهو الجنة، ولن تكونوا بررة تستحقون رضوان الله وفضله ورحمته، وصرف عذابه عنكم، حتى تنفقوا من أحب الأموال إليكم. ومما يدل على سمو رتبة الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يتصدقون بأحب الأموال لديهم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان أبو طلحة أكثر الأنصار نخلا بالمدينة، وكان أحب أمواله إليه بيرُحَاء (بستان في المدينة) وكانت مستقبلة المسجد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخلها فيشرب من ماء طيب فيها، فلما نزلت: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} آل عمران الآية: 91.

قال أبو طلحة: يا رسول الله، إن أحب أموالي إليَّ بيرُحَاء، وإنها صدقة في سبيل الله تعالى أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها حيث أراك الله تعالى، فقال عليه الصلاة والسلام بخ بخ (كلمة استحسان تدل على الرضا والإعجاب) ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين). فقال: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه.

وذكر الامام القرطبي في تفسير قال: روي عن عمر بن عبد الزيز انه كان يشتري أعدالا من سكر يتصدق بها. فقيل له: هلا تصدقت بقيمتها؟ فقال: لان السكر أحب إلي فأردت أن أنفق مما أحب ". تفسير القرطبي ج / 4.

7- الحث على الإنفاق والتحذير من التفريط فيه: وهنا نجد عدة آيات في القرآن الكريم سوف أكتفي بذكر آية واحدة، وهي الآية المتعلقة بطلب الرجعة أو التأخير عند الموت، ذلك لأن الصدقة فضلها عظيم جدا، وفي هذا يقول المولى سبحانه: {... وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين} المنافقون الآية: 10. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من كان له مال يبلغه حج بيت الله الحرام، أو تجب عليه فيه الزكاة، فلم يفعل سأل الرجعة عند الموت). فقال له رجل: يا بن عباس: اتق الله فإنما يسأل الرجعة الكافر.. فقال: سأتلو عليكم بذلك قرآنا: {وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين} وقال أيضا رضي الله عنه: هذه الآية أشد على أهل التوحيد؛ لأنه لا يتمنى الرجوع في الدنيا أو التأخير فيها أحد له عند الله خير في الآخرة. قال الإمام القرطبي: إلا الشهيد فإنه يتمنى الرجوع حتى يقتل، لما يرى من الكرامة.

أسال الله تعالى ولكم أن نكون من المنفقين في سبيله آمين

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 


Catégorie : مقالات - دروس في الفقه
Page lue 312 fois