أو إطعام - الدرس الأول

 

أو إطعام في يوم ذي مسغبة

الدرس الأول

هذه سلسلة من الدروس موجهة للعامة وعلى وجه الخصوص للجمعيات الخيرية الناشطة في الميدان والتي تقوم بأعمال جليلة القدر عظيمة النفع أسال الله لي ولهم التوفيق والنجاح جميعا حيثما كانوا. والله من وراء القصد وعليه التكلان.

أولا -أهمية إطعام الطعام في نصوص القرآن والسنة:

إطعام الطعام لمن يحتاجه فضيلة كبيرة وخلق إسلامي رفيع جاء الإسلام لترسيخه وتأكيده في نفوس المسلمين، والحث على بذله لمن هو في حاجة إليه؛ وذلك لأن الإسلام بصفة عامة هو دين يدعو إلى التعاون على البر والتقوى، ويدعوا أيضا إلى التكافل بين الناس، وتقوية الروابط الأخوية، وتمتين الصلة بين الأفراد والجماعات، فلا قيام لمجتمع ولا قيمة لأمة ما لم تكن الروابط بين أفرادها قوية بحيث تكون العلاقة بين الغني والفقير علاقة حب ومودة، وتعاون، وإحسان، وإحساس.

وإذا ذهبنا نتصفح النصوص الواردة في القرآن والسنة بخصوص إطعام الطعام نجدها نصوصا مستفيضة ومتنوعة، حيث تناولت الموضوع من عدة جوانب وأبرزت فضائله، ومكانته في دين الإسلام، وهذا الاهتمام الكبير بمسألة إطعام الطعام لمن يستحقه، ويحتاج إليه وخاصة في أيام المحن والشدائد، يرجع بالدرجة الأولى إلى كون الإسلام جاء يدافع في المقام الأول عن الضعفاء، والفقراء والمساكين، وأمثالهم، ومن جهة أخرى، فإن الإسلام دين التكافل، والترابط والتعاون، فما من خصلة من الخير إلا ودعا إليها، وحث على فعلها لما فيها من النفع الكبير والخير العميم، وخير الأعمال ما كان فيه خيرا لعامة الناس.

وبناء على هذه الأهمية الكبيرة للطعام في حياة المخلوقات جميعا، فإن نصوص القرآن والسنة بينت بكل وضوح مكانة هذا الفعل، وأظهرت فضائله، ومزاياه في الدنيا والأخرة، وذلك يتضح لنا فيما يلي:

أولا: إن المطعم الحقيقي هو الله عز وجل: قال جل جلاله: {قل اغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يُطعِم ولا يُطعَم} الأنعام الآية: 14. أي هو جل وعلا يَرزُقُ ولا يُرزَق. دليله قوله سبحانه: {ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يُطعِمون} الذاريات الآية: 57. قال ابن كثير رحمه الله: أي هو الرازق لخلقه من غير احتياج إليهم، وقرأ بعضهم: (وهو يُطعم ولا يَطعَم) أي لا يأكل " قال الإمام القرطبي رحمه الله: وخص الإطعام بالذكر دون غيره من ضروب الإنعام؛ لأن الحاجة إليه أمس لجميع الأنام" ج/6/256. ويقول الشيخ وهبة الزحيلي رحمه الله: وفي هذا دلالة واضحة ترشد العباد إلى أنه يجب عليهم التماس الرزق من الله عز وجل وحده، مع اتخاذ الأسباب الموصلة إليه، من السعي والعمل والتدبير والبحث والتنقيب، لا من أي مخلوق آخر سواه. التفسير المنير 7/152. ففي الآية الكريمة قد امتن الله سبحانه بالطعام على جميع المخلوقات، وهذا لكونه من أعظم النعم، وأجلها؛ لأنه لا حياة لمخلوق بدون طعام ولا شراب.

وهذا ما ورد تأكيده في القرآن الكريم في دعوات إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين ابتدأ دعاءه بالثناء على الله جل وعلا، وأنه هو من يطعمه ويسقيه. فقال عز وجل في كتابه: {الذي خلقني فهو يهدين، والذي هو يطعمني ويسقين، وإذا مرضت فهو يشفين...} الشعراء. أي هو تعالى الذي يرزقني الطعام والشراب فهو الخالق الرازق الذي ساق المزن، وأنزل المطر، وأخرج الثمرات رزقا للعباد.

وقد جاء في الحديث القدسي أن الله تعالى قال: (...يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم). قال ابن دقيق العيد رحمه الله: يعني أنه خلق الخلق كلهم ذوي فقر إلى الطعام، فكل طاعم كان جائعا حتى يطعمه الله بسوق الرزق إليه، وتصحيح الآلات التي هيأها له، فلا يظن ذو الثروة أن الرزق الذي في يده، وقد رفعه إلى فيه أطعمه إياه غير الله سبحانه، وفيه أيضا أدب للفقراء: كأنه قال: لا تطلبوا الطعام من غيري، فإن هؤلاء الذين تطلبون منهم أنا الذي أطعمهم (فاستطعموني أطعمكم). شرح الأربعين لابن دقيق العيد شرح الرابعين والعشرين.

ثانيا: إطعام الطعام خصلة من خصال الأبرار: حيث مدح الله جل وعلا عباده الأبرار المطعمين للطعام ابتغاء وجهه سبحانه، فقال: {إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا، عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا، يوفون بالنذر، ويخافون يوما كان شره مستطيرا، ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا، إنما نطعمكم لوجه الله، لا نريد منكم جزاء ولا شكورا، إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا} الإنسان الآية: 5-10

فقوله تعالى: {ويطعمون الطعام على حبه} أي ويطعمون الطعام مع حبهم له وحاجتهم إليه. وقوله: {إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا} أي إنما نحسن إليكم ابتغاء مرضاة الله وطلب ثوابه. وقوله: {لا نريد منكم جزاء ولا شكورا} أي لا نبتغي من وراء هذا الإحسان مكافأة، ولا نقصد الحمد والثناء منكم. قال مجاهد رحمه الله: أما والله ما قالوه بألسنتهم، ولكن علم الله به من قلوبهم فأثنى عليهم به ليرغب في ذلك راغب " صفوة التفاسير ج/3. وقوله {إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا} أي إنما نفعل ذلك رجاء أن يقينا الله هول يوم شديد، تعبس فيه الوجوه من فظاعة أمره، وشدة هوله، وهو يوم قمطرير أي شديد عصيب "صفوة التفاسير ج/3.

ثالثا: إطعام الطعام في أيام الجوع هو اقتحام للعقبة: قال الله جل جلاله: {فلا اقتحم العقبة، وما أدراك ما العقبة، فك رقبة، أو إطعام في يوم ذي مسغبة، يتيما ذا مقربة، أو مسكينا ذا متربة} البلد الآية:11-16. فقوله عز وجل: {فلا اقتحم العقبة} أي فهلا أنفق ماله في اجتياز العقبة الكؤود. قال في البحر المحيط: والعقبة استعارة للعمل الشاق على النفس، من حيث فيه بذل المال، تشبيها لها بعقبة الجبل وهو ما صعب منه وقت الصعود، فإنه يلحقه مشقة في سلوكها، ومعنى اقتحمها دخلها بسرعة وشدة " ثم فسر تعالى معنى اقتحام العقبة بقوله: {وما أدراك ما العقبة}.

 قال صاحب أضواء البيان: وقد ذكر أن كل ما جاء بصيغة وما أدراك، فقد جاء تفصيله بعده كقوله: {القارعة ما القارعة وما أدراك ما القارعة، يوم يكون الناس كالفراش المبثوث} وفي تفسير العقبة بالمذكورات، فك رقبة، وإطعام اليتيم والمسكين توجيه إلى ضرورة الإنفاق حقا " 9/228. فقوله تعالى: {أو إطعام في يوم ذي مسغبة} أي أو أن يُطعم الفقير في يوم عصيب ذي مجاعة. قال الإمام الصاوي: وقيد الإطعام بيوم المجاعة؛ لأن إخراج المال فيه أشد على النفس" حاشية الصاوي على الجلالين 4/322.

رابعا: إطعام الطعام أفضل أعمال الإسلام: فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أي الإسلام خير؟ قال: (تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف) متفق عليه. وهذا الحديث قد اشتمل على أمرين مهمين في حياة الناس، وكلاهما من فضائل الأعمال وأعظم الخصال:

إطعام الطعام لكل جائع في كل زمان ومكان، ونشر السلام بين الناس حتى تقوى روابط المحبة والمودة. وإطعام الطعام يشمل بذله للمحتاج وتقديمه للضيف، وإقامة الولائم، بل يشمل بإشارته معونة المسلم بماله أيا كان نوع المعونة، وأيا كان المال طعاما أو شرابا.

يتبع.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته


Catégorie : مقالات - أو إطعام في يوم ذي مسغبة
Page lue 342 fois