أو إطعام - الدرس الثاني

أو إطعام في يوم ذي مسغبة

الدرس الثاني

خامسا: امتنان الله تعالى بالطعام والأمن على قريش:

 قال سبحانه: {لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف} سورة قريش. اللام في (لإيلاف) هذه اللام متعلقة بالفعل الذي بعدها (فليعبدوا) ومعنى (الإيلاف) اللإلف والاعتياد يقال: ألِف الرجل الأمر إلفا وإيلافا... والمعنى: من أجل تسهيل الله على قريش وتيسيره لهم ما كانوا يألفونه من الرحلة في الشتاء إلى اليمن، وفي الصيف إلى الشام، كما قال تعالى: {رحلة الشتاء والصيف}، حيث كانوا يسافرون للتجارة، ويأتون بالأطعمة والثياب، ويربحون في الذهاب والإياب، وهم آمنون مطمئنون لا يتعرض لهم أحد بسوء، لأن الناس كانوا يقولون:

هؤلاء جيران بيت الله وسكان حرمه، وهم أهل الله لأنهم ولاة الكعبة، فلا تؤذوهم ولا تظلموهم، ولما أهلك الله أصحاب الفيل، وردَّ كيدَهم في نحورهم، ازداد وقع أهل مكة في القلوب، وازداد تعظيم الأمراء والملوك لهم، فازدادت تلك المنافع والمتاجر، فلذلك جاء الامتنان على قريش، وتذكيرهم بنعم الله ليوحدوه ويشكروه. (فليعبدوا رب هذا البيت) أي فليعبدوا الله العظيم الجليل، رب هذا البيت العتيق، وليجعلوا عبادتهم شكرا لهذه النعمة الجليلة التي خَصَّهم بها.

قال المفسرون: وإنما دخلت الفاء (فليعبدوا) لما في الكلام من معنى الشرط كأنه قال: إن لم يعبدوه لسائر نعمه، فليعبدوه من أجل إيلافهم الرحلتين، التي هي من أظهر نعمه عليهم، لأنهم في بلاد لا زرع فيها، ولا ضرع، ولهذا قال بعده: {الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف} أي هذا الإله الذي أطعمهم بعد شدة جوع، وآمنهم بعد شدة خوف، فقد كانوا يسافرون آمنين لا يتعرض لهم أحد، ولا يغير عليهم أحد، لا في سفرهم، ولا في حضرهم كما قال تعالى: {أولم يروا انا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم} العنكبوت الآية: 67.

وذلك ببركة دعوة أبيهم إبراهيم عليه السلام حيث دعا الله تعالى فقال: {رب اجعل هذا بلدا آمنا} البقرة الآية: 126. وقوله: {وارزقهم من الثمرات} سورة إبراهيم الآية: 39. أفلا يجب على قريش أن يفردوا بالعبادة هذا الإله الجليل، الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف؟! صفوة التفاسير: ج/3 للصابوني رحمه الله.

قال الإمام الرازي رحمه الله: اعلم أن الإنعام على قسمين: أحدهما دفع ضر وهو ما ذكره في سورة الفيل. والثاني: جلب نفع وهو ما ذكره في هذه السورة، ولما دفع الله عنهم الضر، وجلب لهم النفع، وهما نعمتان عظيمتان أمرهم بالعبودية، وأداء الشكر. {فليعبدوا ...}." التفسير الكبير ج/30.  فالله سبحانه وتعالى قد امتن على قريش في هذه السورة بنعم منها نعمة الطعام، وتأمين الطرق لجلبه لهم بدون خوف ولا فزع       

سادسا: إطعام الطعام وصلته بالأحكام الشرعية: وهناك أمر آخر مهم بالنسبة لإطعام الطعام في الإسلام، وهو أن الشارع الحكيم ربطه بأحكام شرعية مختلفة، وفي مقدمتها أنه أوجب فيه حقا معلوما في الزكاة، فيما تخرجه الأرض من زروع وثمار، كالزيتون والعنب والتمر، والقمح والشعير وغيرها من الحبوب الجافة كالقطاني السبع التي تذكر في باب الزكاة، والتي هي الأقوات الأساسية في حياة الناس.

1-) الإطعام في زكاة الفطر: ثم إننا نجد أن الإسلام قد شرع وأوجب زكاة الفطر التي أصل وجوبها هو الصيام حيث أوجبها الشارع، إغناء للفقراء، وإطعاما لهم في يوم العيد، وهي أيضا طهارة للصائم، من اللغو والرفث، وجبرا لعبادة الصيام، لما قد يقع فيه من نقص.

فقد أخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان صاعا من تمر، وصاعا من شعير، على العبد والحر، والذكر، والأنثى، والصغير، والكبير، من المسلمين). وروى أبو داود وابن ماجة والدارقطني، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهارة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات). فمن مقاصد زكاة الفطر هو إطعام المساكين والمحتاجين وخاصة في يوم العيد الذي ينبغي أن تعم الفرحة فيه على الجميع.

ومن جانب آخر له أهميته في الشريعة الإسلامية، وهو أن الشارع الحكيم ربط إطعام الطعام بالكفارات في العبادات وغيرها، وجعله أيضا فدية يخرجها المسلم في حالات خاصة، وكذا تشريع الهدايا والأضاحي في الحج وفي عيد الأضحى.

2-) الإطعام في الحج وعيد الأضحى: قال الله تعالى: {ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام، فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير} الحج الآية: 28. (فكلوا منها) أي كلوا من لحوم الأضاحي. والمقصود هنا بالأضاحي الهدي الذي يقدمه الحجاج خلال الحج إلى بيت الله الحرام؛ لأن سياق الآية يدل على أنها الهدايا حيث وردت في الكلام عن الحج.

ثم بعد أن أمر بالأكل منها أمر أيضا بإطعام الفقراء فقال: (وأطعموا البائس الفقير) أي أطعموا منها البائس الذي أصابه بؤس وشدة، والفقير الذي أضعفه الإعسار. قال ابن عباس رضي الله عنهما: البائس الذي ظهر بؤسه في ثيابه، وفي وجهه، والفقير الذي لا يكون كذلك، ثيابه نقية ووجه غني.

وقال الشيخ الطاهر بن عاشور -رحمه الله -: وأدمج في هذا الحكم - ذكر اسم الله- الامتنان بأن الله رزقهم تلك الأنعام. وهذا تعريض بطلب الشكر على هذا الرزق بالإخلاص لله في العبادة، وإطعام المحاويج من عباد الله من لحومها، وفي ذلك سد لحاجة الفقراء بتزويدهم ما يكفيهم لعامهم، ولذلك فرع عليه، (فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير). التحرير والتنوير ج/17.

ثم يقول سبحانه في نفس السورة: {والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف، فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون} الحج الآية: 36. فقوله تعالى: (فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر) أي كلوا من هذه الهدايا، وأطعموا القانع: أي المتعفف، والمعتر: أي السائل قاله ابن عباس. وقال الرازي: الأقرب أن القانع هو الراضي بما يدفع إليه من غير سؤال وإلحاح، والمعتر هو الذي يتعرض ويطلب ويعتريهم حالا بعد حال. وبين تفسير ابن عباس والرازي نجد تقاربا كبيرا في المعنى، وإنما الاختلاف واقع في العبارة فقط.

3-) الإطعام في الكفارات:

والكفارات في الإسلام لها أحكام تخصها وتضبط تفاصيلها نصوص القرآن والسنة، والحكمة منها: أنها شرعت للتعبد، وللتعزير، وللتكفير عما بدر من الإنسان من خطأ، أو ما ارتكبه من مخالفات شرعية، وقد تكون الكفارة بالإطعام، وذلك فيما يلي:

أ-) الإطعام في الصيام: فقد جعل الشارع إخراج الطعام بدلا عن غيره في كفارة الصيام، لمن أفطر في نهار رمضان متعمدا، ومنتهكا لحرمة الشهر المعظم، وهذا يكون إما: بالإطعام، أو بالعتق، أو بصيام شهرين متتابعين. وهذا هو ترتيبها عند المالكية، بحيث يقدم الطعام أولا؛ لأنه هو الأولى، ثم العتق، ثم صيام شهرين متتابعين وهو 60 يوما

فالإطعام: هو إطعام ستين مسكينا مدا لكل مسكين من غالب عيش أهل البلد، ويقدر المُد بمُد النبي صلى الله عليه وسلم. وإما العتق: وله أن يكفر بعتق رقبة مؤمنة كاملة الرق، سليمة من العيوب الفاحشة. وإما الصيام: وهو أن يصوم شهرين متتابعين كاملين، إن لم يبدأ بالهلال، وإن بدأ بالهلال اقتصر على الشهرين ولو كانا ناقصين. فهنا نجد تقديم الإطعام على غيره من أنواع المكفرات –عند المالكية - لما له من دور كبير في إطعام الجوعى، ومساعدة الفقراء والمحتاجين.

ب-) الإطعام في كفارة اليمين: وأيضا فإن الإطعام يكون في كفارة اليمين مقدما على غيره من الأنواع الأخرى من المكفرات التي شرعها الله جل جلاله. فقال سبحانه: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم، ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام، ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم ...} المائدة الآية: 89.

أي كفارة اليمين عند الحنث أن تطعموا عشرة مساكين من الطعام الوسط الذي تطعمون منه أهليكم. قال ابن عباس: أي من أعدل ما تطعمون أهليكم. فالله تعالى جعل الحنث في اليمين وسيلة من وسائل إطعام المساكين، وهذا كله ترغيب من الشارع في إطعام الطعام لمن يستحقه ويحتاج إليه، وإن كان إطعام الطعام مرغب فيه بصفة عامة، وهنا جاء تفضيله مقدما على غيره، سدا للجوع، وإكراما للمساكين والمحاويج .

ج-) الإطعام في كفارة الظهار: والظهار مشتق من الظهار يقال: ظاهر من امرأته إذا حرمها على نفسه بقوله: انت علي كظهر أمي. وهو نوع من الطلاق كان معروفا عند الناس في الجاهلية، ولكن الإسلام جعل فيه الكفارة، وهي ثلاثة أنواع: إما تحرير رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، وإما إطعام ستين مسكينا.

وقضية الظهار تناوله القرآن بالتفصيل في سورة المجادلة في القصة المعروفة عن خولة بنت ثعلبة زوجة أوس بن الصامت.

فقال المولى عز وجل فيما يخص كفارة الإطعام: {فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا} أي فمن لم يجد الرقبة، فصيام شهرين متتابعين، فمن لم يستطع الصيام لكبر أو مرض، فعليه إطعام ستين مسكينا ما يشبعهم.

وهنا نلاحظ أن كفارة الإطعام تتفاوت حسب خطورة الأمر الذي شرعت من أجله ففي الأيْمان إطعام عشرة مساكين فقط، أما في كفارة الصيام، والظهار فهو إطعام ستين مسكينا، وذلك راجع إلى خطورة انتهاك حرمة الشهر المعظم، وإلى خطورة انتهاك تفكيك الأسرة، والانفصال بين الزوجين

4-) الفدية بالإطعام :

أ-) الفدية بالإطعام في الصيام: وأما الفدية بإطعام مساكين فهو يدخل في الصوم وفي الحج. ففي الصيام يقول الله سبحانه: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين.} البقرة الآية: 183. واختلف العلماء على رأيين: فيرى الأكثرون: أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه}. ويرى البعض الآخر: أن الآية ليست منسوخة، قال ابن عباس: رخص للشيخ الكبير، أن يفطر، ويطعم عن كل يوم مسكينا، ولا قضاء عليه.

وروى البخاري عن عطاء: أنه سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقرأ: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين} قال ابن عباس: ليست منسوخة، هي للشيخ الكبير، والمرأة الكبيرة، لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكينا " روائع البيان ج/1 للصابوني –رحمه الله -) وعلى هذا تكون الآية غير منسوخة، ويكون معنى قوله تعالى: (وعلى الذين يطيقونه) أي الذين يقدرون على الصوم مع الشدة والمشقة. روائع البيان في تفسير آيات الأحكام ج/1/208. وهناك أشخاص مطالبون بالفدية في الصيام لا مجال لتفصيلها هنا.

ب-) الفدية بالإطعام في الحج (الصدقة): قال جل جلاله: {فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} البقرة. أي فمن كان منكم معشر المحرمين مريضا مرضا يتضرر معه بالشعر فحلق، أو كان به أذى من رأسه كصداع، فحلق في الإحرام، فعليه فدية، وهي إما صيام ثلاثة أيام أو يتصدق بثلاثة آصع على ستة مساكين، أو يذبح ذبيحة وأقلها شاة. والتصدق ب الآصع الثلاث أو ذبح شاة، هو إطعام في الحقيقة على مساكين الحرم

سادسا: الامتناع عن إطعام الطعام من أسباب دخول النار: وذلك أن الله تعالى ذكر في سورة المدثر أن من أسباب دخول النار الامتناع عن إطعام الطعام للفقراء والمساكين، حيث نجد أن الله تعالى ربط الامتناع عن إطعام الطعام للمساكين بأمور خطيرة جدا وهي ترك الصلاة والخوض مع أهل الباطل، والتكذيب بيوم الدين.

قال تعالى: {قالوا ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين، ولم نك نطعم المسكين، وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين} المدثر الآية:42-47. فقوله تعالى: {قالوا لم نك من المصلين، ولم نك نطعم المسكين} أي ولم نكن نتصدق ونحسن إلى الفقراء والمساكين. قال ابن كثير: مرادهم في الآيتين: ما عبدنا ربنا، ولا أحسنا إلى خلقه من جنسنا " مختصر تفسير ابن كثير ج/3

ثامنا: الامتناع عن الحض على إطعام المساكين من أوصاف الكافر: وإذا كان إطعام الطعام خصلة من خصال المتقين الأبرار كما ذكر الله تعالى في كتابه كما، فإن من أوصاف الكافر الامتناع عن فعل هذا الخير، وهذا ما أخبر عنه سبحانه في سورة الماعون، فقال: {أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين ...} استفهام للتعجيب والتشويق أي هل عرفت الذي يكذب بالجزاء والحساب في الآخرة؟ هل عرفت من هو، وما هي أوصافه؟ إن أردت أن تعرفه (فذلك الذي يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين} أي ولا يحث على إطعام المسكين. قال أبو حيان: وفي قوله (ولا يحض) إشارة إلى أنه هو لا يطعم إذا قدر، وهذا من باب الأولى لأنه إذا لم يحض غيره بُخْلاً، فلأن يترك هو ذلك فعلا أولى وأحرى.

وقال الإمام الرازي: فإن قيل: لم قال (ولا يحض على طعام المسكين) ولم يقل: ولا يطعم المسكين؟ فالجواب: أنه إذا منع اليتيم حقه، فكيف يطعم المسكين من مال نفسه؟ بل هو بخيل من مال غيره، وهذا هو النهاية في الخِسَّة، ويدل على نهاية بُخْله، وقساوة قلبه، وخساسة طَبْعِه، والحاصل أنه لا يطعم المسكين، ولا يأمر بإطعامه، لأنه يكذب بالقيامة، ولو آمن بالجزاء، وأيقن بالحساب لما صدر عنه ذلك.

....  يتبع

أسأل الله تعالى لي ولكم أن نكون من الأبرار الأطهار الذي يطعمون الطعام في كل وقت وحين آمين

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


Catégorie : مقالات - أو إطعام في يوم ذي مسغبة
Page lue 282 fois