آية الدعاء ومعناها - الدرس الثالث
الدرس الثالث
لحكمة من الدعاء
الحمد لله رب العالمين حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فإن مسألة الدعاء مسألة ذات أهمية كبيرة، وذلك لوروده وتكرره في القرآن الكريم كثيرا، حيث ورد في مناسبات مختلفة، ومواضع متعددة. فقد أمر الله به عباده في عدة آيات من القرآن الكريم ووعدهم بالاستجابة لما طلبوه، كما حكى الله تعالى في كتابه أن الدعاء هو عمل من عمل الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام فكل واحد منهم تقريبا إلا وله دعاء أو أكثر سجله الله سبحانه له في القرآن الكريم، وهذا يدل على أهمية الدعاء في حياة الأنبياء والصالحين وغيرهم من البشر. وكذلك حفلت كتب السنة جميعها بالأدعية النبوية تطبيقا من النبي صلى الله عليه وسلم أو تعليما لأمته حتى يدعوا الله تعالى بها لأن الدعاء هو العبادة كما ورد في القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف.
ولكون الدعاء يحتل مرتبة كبيرة في الإسلام، فإن هناك كتبا كثيرة تضمنت أدعية مختلفة في مواطن شتى من حياة الإنسان المسلم، بل لا أكون مبالغا إذا قلت: إن الدعاء هو القربة التي لا يخل منها وقت من الأوقات، فهو يشمل عمل اليوم والليلة، كما يشمل حالات وأوضاع الإنسان كلها، فإذا تصفحنا كتب الدعاء نجد أنها اشتملت على أدعية متنوعة في اليوم والليلة، فإن كان هذا يدل على شيء، فإنه يوحي بشدة ارتباط حياة المؤمن بالله آناء الليل وأطراف وحاجته إلى عونه ومساعدته.
ومن خلال التصفح للكتب المؤلفة في الدعاء تبعا أو استقلالا، لم أجد (حسب علمي) ولو كتابا واحدا يتحدث عن الحكمة من الدعاء أو مقاصد الدعاء إلا البعض النادر منها الذي أشار لبعضها على عجالة وبعبارات موجزة لا تفي بالغرض ولا تشفي الغليل. فلهذا السبب استعنت بالله وكتبت هذه الورقات، لأسجل بعض هذه الحكم والمقاصد (حسب اجتهادي) وتبين لي من خلال المطالعة والتأمل أنها تتلخص في النقاط الخمس التالية: الأولى: الدعاء عبادة. الثانية: الدلالة على التوحيد. الثالثة: الدعاء وسيلة للثناء. الرابعة: الدلالة على الغنى المطلق. الخامسة: ربط العباد بربهم وتحقيق أغراضهم.
الحكمة الأولى: الدعاء عبادة: قال الله تعالى: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} سورة غافر: الآية: 60. قال الإمام ابن علان الدمشقي: قال الجمهور: المراد أن الدعاء من أعظم العبادة فهو كالحديث الآخر: (الحج عرفة). ويؤيده حديث الترمذي مرفوعا (الدعاء مخ العبادة) دليل الفالحين7/299. وقال الشيخ تقي الدين السبكي: والأولى حمل الدعاء في الآية على ظاهره، وأما قوله بعد ذلك (عن عبادتي) فوجه الربط أن الدعاء أخص من العبادة، فمن استكبر عن العبادة استكبر عن الدعاء، وعلى هذا فالوعيد عليه إنما هو في حق من ترك الدعاء استكبارا، ومن فعل ذلك كفر، وأما من تركه لمقصد من المقاصد فلا يتوجه إليه الوعيد المذكور، وإن كنا نرى أن ملازمة الدعاء والاستكثار منه أرجح من الترك لكثرة الأدلة الواردة في الحض عليه " دليل الفالحين 7/300.
ومما يدل على أن الدعاء عبادة، هو ما رواه الإمام أحمد عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن الدعاء هو العبادة} ثم قرآ {ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} رواه أحمد وأصحاب السنن وقال الترمذي حديث حسن صحيح. قال القرطبي رحمه الله: فدل هذا على أن الدعاء هو العبادة، وكذا قال كثير من المفسرين، وأن المعنى: وحدوني واعبدوني أتقبل عبادتكم واغفر لكم " تفسير القرطبي 15/213. وقال الشيخ وهبة الزحيلي: والآية اشتملت على أمر العباد بالدعاء والتكفل لهم بالإجابة فضلا من الله وكرما، وهذا وعد، كذلك اشتملت أيضا على وعيد شديد لمن استكبر عن دعاء الله، فالله هو الكريم الذي يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، ويغضب على من لم يطلب من فضله العظيم، وملكه الواسع ما يحتاج إليه من أمور الدنيا والآخرة " التفسير المنير24/151.
ومما له صلة وثيقة بهذه الآية الكريمة ما ورد عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أعطيت أمتي ثلاثا لم تعط إلا للأنبياء، كان الله تعالى إذا بعث النبي قال: ادعني أستجب لك، وقال لهذه الأمة: {ادعوني أستجب لكم} وكان الله إذا بعث النبي قال: ما جعل عليك في الدين من حرج، وقال لهذه الأمة: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} وكان الله إذا بعث النبي جعله شهيدا على قومه، وجعل هذه الأمة شهداء على الناس) ذكره الحكيم الترمذي في نوادر الأصول تفسير القرطبي 213.
ولما كان الدعاء عبادة من العبادات الشرعية، فإن العلماء صرحوا بهذه الحكمة، وبينوا أن الغرض الأساسي من الدعاء بالدرجة الأولى هو العبادة، وأنه عبادة مهمة وضرورية في حياة المسلم. يقول ابن العربي رحمه الله: حقيقة الدعاء مناداة الله تعالى لما يريد من جلب منفعة، أو دفع مضرة من المضار والبلاء بالدعاء، فهو سبب لذلك واستجلاب لرحمة المولى سبحانه " عارضة الأحوذي 12/266. وقال ابن بطال: يجب أن يكون غرض العبد من الدعاء هو الدعاء لله والسؤال منه، والافتقار إليه، ولا يفارق سمة العبودية وعلامة الرق، والانقياد للأمر والنهي، والاستسلام لربه تعالى بالذل والخشوع " شرح البخاري 10/125. وعند تفسير قوله تعالى: {أجيب دعوة الداع إذا دعان} قال القرطبي: أقبل عبادة من عبدني، فالدعاء بمعنى العبادة " الجامع لأحكام القرآن الكريم.
يتبع
والسلام عليكم ورحمة الله